شحاتة زكريا يكتب: ما وراء ضباب التصريحات.. كيف توظف إسرائيل فوضاها الداخلية لإعادة رسم الشرق الأوسط؟
فى زمن الحروب الممتدة يصبح الإعلام أخطر من المدفع والرسالة الموجهة أخطر من الرصاصة. ما تفعله إسرائيل اليوم فى ظل حربها على غزة ولبنان وسوريا ليس مجرد حملة عسكرية بل هو ما يمكن وصفه بمعركة “الهندسة الإدراكية” أى تشكيل وعى الشعوب وإعادة إنتاج روايات مضللة تسمح لها بالتمدد تحت غطاء الخداع والتناقض.
المتابع لتصريحات القادة الإسرائيليين يلحظ حجم التضارب والارتباك الظاهر: تصريحات سياسية تقول شيئا وأخرى عسكرية تنفى أو تغاير مع تسريبات متعمدة عن صدامات بين الجيش والحكومة أو بين الوزراء والمعارضة. للوهلة الأولى يبدو الأمر علامة ضعف وانقسام داخل المنظومة ، لكنه فى الحقيقة أقرب إلى تكتيك محسوب هدفه صناعة ضباب يُربك المتلقى العربى والدولى ويدفع المقاومة إلى قراءة خاطئة للمشهد ، كما يهيئ الرأى العام الإسرائيلى لقبول أى سيناريو مفاجئ قد يُفرض عليه.
هذه ليست المرة الأولى التى تلجأ فيها إسرائيل إلى لعبة التضارب الإعلامى. فمنذ 1948 اعتمدت على هذا السلاح لخلق صورة مزدوجة: دولة ديمقراطية فيها تعددية وخلافات ، وفى الوقت ذاته كيان متماسك يوحده الخوف من “العدو”. هذه الازدواجية تصب فى النهاية فى مصلحة مشروعها الأكبر: إعادة تشكيل المنطقة وفق الرؤية الإسرائيلية-الأمريكية عبر توظيف الحرب النفسية بقدر لا يقل عن توظيف القوة المسلحة.
خطر هذه الحرب الناعمة أنها لا تستهدف الجبهات فقط بل تستهدف الوعى العربى نفسه. حين يتناقل الإعلام العربى التصريحات المتناقضة دون تفكيك أو تحليل يُعاد إنتاج الرسالة الإسرائيلية كما أرادها صانعها. وحين يُبنى على تلك التصريحات أمل زائف بأن الانقسام الداخلى سيُنهى الحرب أو يُضعف الكيان تتحقق لإسرائيل فرصة ذهبية لإطالة أمد المعركة ، وإعادة ترتيب أوراقها وهى فى موقع المبادِر لا المدافِع.
الولايات المتحدة والغرب شركاء أصيلون فى هذه اللعبة؛ فهم يتركون مساحة مفتوحة لإسرائيل كى تُصدر للعالم روايات متباينة بينما يقومون بتلميع صورتها دوليا باعتبارها “الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط”. هنا يتحول التضارب من مجرد ارتباك إلى أداة تبييض ومن مجرد تكتيك حربى إلى أداة استراتيجية لإعادة رسم الخرائط.
لكن ما يغيب عن حسابات إسرائيل هو أن الوعى العربى لم يعد كما كان. لقد أثبتت حروب غزة الأخيرة أن الشعوب باتت تقرأ ما وراء السطور، وتدرك أن التضارب فى الخطاب لا يعنى الانقسام بل يعنى وجود ماكينة دعائية متقنة. المقاومة نفسها لم تعد تقع فريسة الرسائل المضللة، بل تتعامل مع كل تصريح إسرائيلى باعتباره جزءًا من معركة نفسية لا تقل شراسة عن الطائرات والدبابات.
ومع ذلك، يظل التحدى الأكبر أمامنا كعرب هو كيفية إدارة “معركة الوعى” بخطاب بديل يفضح التضليل، ويعتمد على كشف البنية الدعائية الإسرائيلية بدلاً من الاكتفاء برد الفعل. فالمعركة اليوم لا تُحسم فقط على حدود غزة أو فى سماء لبنان، بل تُحسم فى عقول الناس، فى كيفية قراءتهم للأحداث وفهمهم للرسائل، وفى قدرتهم على إدراك أن ما يبدو فوضى إسرائيلية ليس إلا فخًا مدروسًا بعناية.
إن ما نشهده الآن ليس مجرد تضارب فى التصريحات بل إعادة إنتاج مشروع قديم بأدوات جديدة: “الشرق الأوسط كما تراه تل أبيب”. ولكى لا نُساق وراء هذا السيناريو علينا أن نُحصّن وعينا وأن نُدرك أن المعركة الكبرى هى معركة الإدراك والوعى ، وأن كل كلمة تخرج من مسؤول إسرائيلى قد تكون طلقة فى حرب نفسية لا تقل خطورة عن حرب الدبابات.
