شحاتة زكريا يكتب: من الحصار إلى الإبادة.. غزة تكتب مستقبل العالم بدمها

1

ليست غزة مجرد جغرافيا صغيرة محاصرة منذ أكثر من سبعة عشر عاما وليست مجرد عنوان مأساة متكررة في نشرات الأخبار بل هي مرآة كاشفة لأخلاقيات العالم ولسؤال العدالة الذي لم يعد يطرح في المحاكم وحدها بل بات يُطرح على الإنسانية جمعاء: كيف تقف القيم صامتة بينما تُسحق مدينة بأكملها تحت الأنقاض؟

منذ بداية هذا الفصل الدموي الجديد لم تعد غزة تحارب من أجل البقاء فقط بل أصبحت تخوض معركة نيابة عن العالم: معركة المعنى، ومعركة الضمير، ومعركة الكلمة الحرة. لم يعد القصف وحده يدوّي بل صارت الصور، والصرخات، والأطفال المبتورة أحلامهم رسائل يومية تُذكّر العالم بأن الحصار لم يكن جريمة عرضية بل تمهيدا ممنهجا للإبادة.

في غزة لا تُقصف الأبنية فقط بل تُهدم فكرة الأمل. لا تُستهدف فقط البنية التحتية بل يُقصف المستقبل. ومع كل شهيد يسقط لا تُعلن فقط نهاية حياة بل يُسحب من العالم جزء من إنسانيته ويُضاف إلى أرشيف الصمت الدولي صفحة جديدة من العار. ورغم ذلك تبقى غزة ببسالتها وصمودها تعيد تعريف النصر ليس بالمعنى العسكري بل بمعناه الأخلاقي العميق.

العالم الذي وقف يوما عند بوابات التاريخ يُدين فظائع الحروب ويحتفي بوثائق حقوق الإنسان يبدو اليوم وكأنه يُعيد كتابة المبادئ بمعايير مزدوجة. تُمحى أحياء من الخريطة وتُحاصر المستشفيات وتُقطع الإمدادات عن الأطفال بينما لا يزال الحديث في كثير من العواصم الكبرى يدور حول “حق الدفاع عن النفس”، متجاهلا حق الحياة ذاته.

لكن غزة لا تستجدي شفقة ولا تطلب إنصافا عابرا بل تفرض على العالم مراجعة نفسه. لقد تحولت من رمز للمعاناة إلى رمز للثبات في وجه ماكينة الهمجية ومن ساحة للدم إلى منارة للحق. كل صورة خارجة من تحت الأنقاض كل صرخة أم كل دمعة يتيم تكتب بدمائها شهادة على تخاذل العالم وفي الوقت ذاته توقظ ضميرا هنا وتُزلزل وجدانا هناك.

ولعلّ المفارقة الأعظم أن هذه المدينة التي تتعرض لحرب إبادة ببطء مريع هي ذاتها التي تزرع فينا كل يوم بذرة أمل جديد. في وجه الدمار تتشبث بالحياة. في ظل الإبادة تُولد الكلمات تُكتب القصائد وتُرفع الكاميرات. وكأن غزة تقول للعالم: “إن كنتم نسيتم معنى الإنسانية، فنحن من يعيد تذكيركم به ولو بالدم.”

غزة لا تموت لأنها لا تقبل أن تُختصر في عنوان خبر. بل تصرّ على أن تكون فعلا دائما، وشاهدا حاضرا، وقضية لا تسقط بالتقادم. وفي زمن يتغير فيه شكل التحالفات ويتشظى فيه الخطاب وتُشترى فيه المواقف بالصفقات تظل غزة نقطة الثبات والبوصلة التي لا تكذب والنداء الذي لا ينقطع: أن هناك حقا لا يُطمس وعدالة لا تموت ومقاومة لا تُقهر حتى لو كان ثمنها الدم.

قد تُمحى معالم المدن وقد تُغير الخرائط لكن الدم لا يكذب. دم غزة يكتب اليوم فصلا جديدا في كتاب العالم ، فإما أن يقرأه بوعي أو يُدان به في مقبل الأيام.