شحاتة زكريا يكتب : من شرم الشيخ إلى واشنطن.. كيف غيّرت القاهرة معادلة الشرق الأوسط؟
من شرم الشيخ خرجت الرسالة الأوضح والأكثر تأثيرا في مسار السياسة الإقليمية منذ سنوات. لم تكن مجرد قمة تبحث عن هدنة أو إطار تفاوضي جديد بل كانت إعلانا عن عودة التوازن إلى منطقة فقدت توازنها طويلا. في تلك اللحظة التي اجتمع فيها العالم على أرض مصر بدا واضحا أن القاهرة لا تتحدث فقط باسمها بل باسم من أنهكتهم الحروب وهدّدتهم الفوضى وباسم حلم عربي قديم في أن يُدار الشرق الأوسط بالعقل لا بالصوت العالي وبالمسؤولية لا بالمغامرة.
منذ اندلاع الحرب الأخيرة في غزة والعالم يتابع كيف تحولت مصر من وسيط إقليمي إلى مركز ثقل سياسي حقيقي يوازن بين الأطراف ويعيد ضبط إيقاع المواقف الدولية المتسارعة. وفي الوقت الذي غرق فيه كثيرون في حسابات النفوذ والهيمنة كانت القاهرة تبني جسورا بين الضفتين وتعيد تعريف مفهوم
الوساطة باعتبارها موقفا أخلاقيا قبل أن تكون أداة سياسية.
لم يكن صدفة أن تعترف واشنطن على لسان رئيسها بأن الصراع في الشرق الأوسط كان يمكن أن يقود إلى حرب عالمية ثالثة لولا الدور المصري. هذا الاعتراف لم يكن مجاملة دبلوماسية، بل إقرارا بأن مصر اليوم تمارس دورا أبعد من حدودها وتملك من الرصيد السياسي والإنساني ما يجعلها قادرة على تحويل الأزمات إلى فرص والمواجهات إلى حلول واقعية.
الدهاء المصري في إدارة الملفات المعقدة ليس وليد اللحظة بل هو امتداد لتاريخ طويل من الفهم العميق لطبيعة المنطقة ومن إدراك أن الحياد الفاعل أقوى من الانحياز الأعمى. ومن يتأمل مسار المفاوضات يدرك أن القاهرة كانت تمسك بخيوط اللعبة كاملة لا من موقع القوة فقط بل من موقع الحكمة أيضا. فهي الدولة التي تعرف كيف تُوازن بين الضغوط الأمريكية والمطالب العربية والتناقضات الإسرائيلية دون أن تفقد بوصلتها الأخلاقية أو موقعها التاريخي.
لقد غيّرت القاهرة المعادلة لأنها لم تسعَ إلى مكاسب آنية بل إلى تثبيت منطق جديد في إدارة الصراعات. منطق يقوم على أن الأمن لا يُشترى بالقوة وأن الاستقرار لا يُفرض من الخارج وأن الحق الإنساني لا يُقايض بالمصالح السياسية. ولعل أكثر ما يميز الموقف المصري أنه لم يكتفِ بإسكات البنادق بل سعى لإعادة بناء ما تهدم في الوعي العالمي من قيم العدالة والتوازن.
شرم الشيخ لم تكن فقط منصة للمفاوضات بل شاهدا على لحظة فارقة في التاريخ السياسي للمنطقة. هناك تلاقى الشرق والغرب على أرضٍ تعرف كيف تجمع ولا تفرّق كيف تبني ولا تهدم. وعلى الرغم من التعقيدات الهائلة التي أحاطت بالقمة خرجت مصر بموقف صلب وواقعي في آن واحد مؤكدّة أن السلام ليس ضعفا وأن القوة لا تكون إلا حين تُستخدم لردع الظلم لا لفرضه.
وفي المقابل بدا واضحا أن واشنطن بدأت تعيد حساباتها في الشرق الأوسط. فبعد سنوات من الانكفاء والتردد أدركت أن مفتاح الاستقرار لا يوجد في العواصم البعيدة بل في القاهرة التي أثبتت أن القيادة ليست بالضجيج الإعلامي بل بالفعل الهادئ المتزن. فمصر لا تفرض أجندة لكنها تفرض احترامها ولا تسعى لاحتكار الحل، لكنها تضمن أن يكون الحل ممكنًا.
اليوم يتغير الشرق الأوسط بخطى واثقة. فالدول التي كانت ساحة صراع تتحول تدريجيا إلى ساحة حوار بفضل من يملك الرؤية لا المصلحة. ومصر التي تحمل إرث الدولة المركزية منذ آلاف السنين تستعيد دورها كصانعة للتاريخ لا مجرد شاهدة عليه. وما بين شرم الشيخ وواشنطن نسجت القاهرة خيطا جديدا من الفهم الدولي لدورها: دولة تعرف متى تتكلم، ومتى تصمت ومتى تترك الأفعال تتحدث عنها.
لقد غيّرت القاهرة معادلة الشرق الأوسط لأنها أدركت أن هذا العصر لا يحتاج إلى “قادة صدام”، بل إلى “قادة وعي”، وأن من يملك ضمير الإنسانية هو الأقدر على حفظ أمن المنطقة والعالم. وحين اختارت مصر أن تكون صوت العقل اختارت أيضًا أن تعيد تعريف القوة في زمن الفوضى.
وهكذا من شرم الشيخ إلى واشنطن، ومن الميدان إلى المنبر تكتب مصر فصلاً جديدا في تاريخ السياسة الدولية. فصل عنوانه: القيادة بالمسؤولية والدبلوماسية التي تُنقذ لا التي تُبرر
