شحاتة زكريا يكتب: من صنع الحرب إلى صناعة الهدوء.. كيف تغيرت لغة الشرق الأوسط؟
بقلم: شحاتة زكريا
لم يكن الشرق الأوسط يوما ساحة هادئة بل كان دائما مسرحا للغليان تتحرك فيه الدول وفق موازين القوة لا وفق لغة الحوار. لكن شيئا ما تغير في السنوات الأخيرة؛ تغيّر في المفردات في النوايا وفي طريقة قراءة الخرائط. فالمنطقة التي اعتادت أن تُدار بالصدام بدأت تميل إلى صياغة جديدة للعلاقات يمكن تسميتها بـلغة الهدوء المدروس .
التحولات التي نراها اليوم ليست مصادفة ولا وليدة رغبة عابرة في السلام بل نتيجة لتراكمات من الإنهاك السياسي والاقتصادي والإنساني. فبعد عقود من النزاعات المشتعلة باتت الشعوب منهكة والأنظمة أكثر وعيا بأن الحرب لم تعد طريقا للبقاء ، وأن كلفة الفوضى أصبحت أكبر من أي مكسب تكتيكي. لقد أدرك الجميع أن الرصاص لا يكتب مستقبلا وأن التنمية هي السلاح الحقيقي في معركة الوجود.
حين ننظر إلى خريطة المنطقة نرى أن الحروب الساخنة لم تعد وحدها محور الحديث بل حلت محلها لغة جديدة: “المبادرات”، “الضمانات”، “التهدئة”، و”التكامل”. هذه الكلمات التي كانت تُذكر في البيانات الدبلوماسية كعبارات شكلية أصبحت الآن محور السياسات. حتى الدول التي اعتادت رفع رايات المواجهة باتت تتحدث عن الاستقرار الإقليمي كخيار استراتيجي لا كهدنة مؤقتة.
وراء هذا التحول أكثر من دافع. فاقتصاد ما بعد الجائحة أفرز واقعا لا يمكن تجاوزه وموجة الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي فتحت عيون القادة على أن الصراع الحقيقي أصبح على الفرص لا على الحدود على المعرفة لا على الأرض. كما أن الحروب الممتدة في محيط المنطقة — من أوكرانيا إلى غزة — كشفت للجميع أن العالم يتغيّر بسرعة وأن النجاة لن تكون للأقوى عسكريا فقط بل للأذكى في إدارة توازنه الداخلي والخارجي.
من كان يصدق قبل سنوات قليلة أن تجلس دول متخاصمة على طاولة واحدة تتحدث عن مشاريع طاقة وربط كهربائي وتكامل اقتصادي؟ أو أن نرى دولا كانت تدير الخلاف بالصواريخ، تتحاور الآن عبر الوسطاء بحثا عن استقرار دائم؟ إنه مشهد جديد لا يخلو من التوجس لكنه يعبّر عن وعي مختلف بلغة المرحلة. فالمعادلة لم تعد “من ينتصر؟” بل من يستمر؟
إن الهدوء الذي تشهده المنطقة ليس استسلامًا ولا ضعفا بل نوع من الذكاء السياسي الذي يدرك أن إدارة الصراع أصعب من إشعاله وأن بناء النفوذ الناعم أمتن من فرض السيطرة بالقوة. لقد أصبحت الدبلوماسية الآن أداة لإدارة المستقبل لا لإطفاء الأزمات فقط وأضحى الاقتصاد هو الضامن الحقيقي لأمن الدول واستقرارها.
في هذا السياق تبرز مصر كنموذج فريد فهي لم تسعَ إلى دور في الحرب بل إلى موقع في صناعة السلام. لم تدخل سباق الصوت العالي ولا استعراض العضلات ، لكنها أثبتت أن الهدوء يمكن أن يكون قوة وأن الحكمة لا تعني التراجع. من شرم الشيخ إلى القاهرة ومن غزة إلى الخرطوم ظل الموقف المصري ثابتا: أن الاستقرار ليس ترفا سياسيا بل ضرورة وجودية في عالم يعيد تشكيل نفسه من جديد.
اليوم تتغير لغة الشرق الأوسط ببطء لكنها تتغير بعمق. تتراجع مفردات المحاور والمواجهات لتحل محلها مفاهيم مثل التكامل الإقليمي وإدارة المصالح المشتركة. حتى القوى الكبرى بدأت تتعامل مع المنطقة بوصفها مساحة للحلول لا للمشكلات وبدأت تدرك أن منطق الصفقات لن يدوم ما لم يسبقه منطق “الاستقرار”.
ولعل السؤال الحقيقي ليس: هل انتهت الحروب؟ بل: هل بدأ زمن ما بعد الحرب؟
الجواب ما زال في طور التشكّل ، لكن المؤكد أن الشرق الأوسط لم يعد كما كان وأن شعوبه — بعد أن دفعت أثمان الدم والضياع — باتت أكثر رغبة في صناعة السلام بأيديها لا استلامه كمنحة من أحد. فالحكمة الجديدة تقول: إن الذين يصنعون الهدوء اليوم هم وحدهم من سيكتبون التاريخ غدا.
