شحاتة زكريا يكتب : من منصة الحرب إلى منصة الخداع.. إسرائيل تجد وكلاءها في الخارج
في زمن تتداخل فيه الأصوات وتتقاطع فيه الحقائق مع الأكاذيب تحوّلت الحرب التي أشعلها الاحتلال الإسرائيلي في غزة إلى ما يشبه «منصة كونية» للفرز الأخلاقي ، لا فقط بين القوى الكبرى بل بين الأفراد والمؤسسات وتيارات بأكملها. ما بدأ كعدوان عسكري دموي أصبح في تجلياته الأخيرة معركة كبرى للوعي يُكشف فيها من ينحاز للحق ومن يراوغ ومن يرفع راية المظلومية ومن يبيعها مقابل فتات الشهرة أو حفنة من المال السياسي.
ووسط هذه الفوضى المتعمّدة تتقدم إسرائيل – لا كجيش فقط بل كآلة دعائية شديدة التمويه – باحثة عن وكلاء جدد لا يحملون بالضرورة نجمة داوود على أكتافهم بل يلبسون عباءات أخرى: إسلامية تارة، حقوقية تارة، وأممية كاذبة في كل الأحوال. هؤلاء ليسوا جنودا في جيش الاحتلال ولكنهم يمارسون دورا أشد فتكا من فوهة المدفع: التشويش على الضحية والتشكيك في المنقذ وتزييف الخريطة الأخلاقية للصراع.
منصة الحرب التي دشنتها إسرائيل يوم السابع من أكتوبر كانت واضحة الأهداف: تهجير الفلسطينيين، كسر غزة، وتركيع الوعي العربي. لكنها لم تحقق أيا من تلك الأهداف. فصمدت غزة رغم المجازر ، وارتفعت الأصوات الحرة في أوروبا ضد الاحتلال ورفضت مصر بحسم أن تكون جزءا من مشروع طرد الفلسطينيين إلى سيناء. عندها فهمت تل أبيب أن الحرب العسكرية وحدها لن تكفي ، وأن الهزيمة تُطبخ في العقل قبل أن تُفرض على الميدان ، فهرعت إلى إنشاء منصة الخداع الجديدة لتعيد تسويق الأكاذيب من خلال وكلاء تم تجنيدهم بعناية من خارجها ولكنهم يعملون بكل اجتهاد لأجلها .
من داخل بعض العواصم ومن خلف واجهات بعض الجماعات التي تدعي مناصرة غزة انطلقت حملات ممنهجة للتشكيك في الموقف المصري ، في وقت كانت فيه القاهرة تخوض واحدة من أنبل معاركها رافضة التهجير حاملة لواء السلام ومدافعة عن الدولة الفلسطينية. ظهرت التظاهرات الغريبة التي تركت سفارات الاحتلال وذهبت تهتف ضد مصر. وظهر متحدثون بلهجات عربية يروجون لمقولات كتبها الإعلام العبري بل ويدافعون عن الاحتلال بينما يهاجمون من يقف في وجهه.
لم يكن ذلك صدفة. لقد صُمّمت منصة الخداع لتبدو وكأنها شعبية محلية بل ومخلصة للقضية لكنها في حقيقتها مجرد ستار دخاني لحرف بوصلة الغضب، وتمزيق خريطة الوعي عبر خلط الأدوار وتزييف الخصوم.
وهنا لا بد أن ننتبه إلى نقطة فارقة: أن تكون عدوا صريحا، خير من أن تتخفّى في عباءة صديق. فالمؤسسة الصهيونية لم تعُد تعتمد فقط على جنودها ومعلقيها الرسميين بل باتت تنسج خيوطها عبر حركات مزيفة ومنصات ناطقة بالعربية ووجوه مألوفة لدى جمهورنا لكنها مأجورة لمشروع آخر تمامًا.
لكن وكما كانت منصات القتل عارية أمام الضمير العالمي فإن منصة الخداع لا تصمد طويلا أمام الحقيقة. ما تفعله مصر الآن ليس فقط تقديم المساعدات ولا فقط الدفاع عن الفلسطينيين في المحافل الدولية بل الأهم أنها تدافع عن الوعي الجمعي للأمة عن المفهوم الجوهري للعدالة وعن بقاء القضية الفلسطينية قضية تحرر حقيقي لا سلعة على موائد السماسرة.
لقد نجحت القاهرة في قلب الطاولة على دعاة التهجير وأفشلت الضغوط الأمريكية والإسرائيلية وبدلاً من أن تتحول رفح إلى ممر نزوح جعلتها مصر منصة للعدالة الإنسانية ومنبرا للشرعية. كل هذا أقلق الاحتلال وأربك خططه، ودفعه لإطلاق حملاته المسمومة عبر «وكلائه» المنتشرين في الخارج ممن يلبسون قناع الناشط أو الإعلامي أو الداعية بينما هم لا يحملون من هذا الوصف إلا قشوره.
في لحظة الاختبار لا يُقاس الناس بما يرفعون من شعارات بل بمن يقفون معه حين يُطلب الموقف. ومصر اليوم ليست فقط حجر الزاوية في المنطقة بل هي أيضا خط الدفاع الأخير عن ما تبقى من القيم في عالم يسير نحو التطبيع والتزييف. ولذلك، فإن استهدافها لم يتوقف ولن يتوقف. لكن الفارق أن وعي المصريين وشرف مواقف الدولة قد صعد إلى مستوى التحدي ورفض أن يكون جزءا من أي مشهد مبتذل يعيد تدوير الأكاذيب.
منصة الحرب كشفت العدو ، لكن منصة الخداع تكشف من يتخفى بثوب الصديق.
وستبقى مصر.. لا تخدع، ولا تنخدع.
