شحاتة زكريا يكتب : من هانوي إلى غزة.. أمريكا تخسر معاركها الطويلة بصمت مدوٍ
منذ خمسين عاما تقريبا كانت صور الطائرات الأمريكية وهي تغادر سايغون في مشهد الفوضى والانسحاب المذل من فيتنام رمزا لانكسار الإمبراطورية التي طالما قدّمت نفسها باعتبارها حامية الديمقراطية وحاملة قيم الحرية. واليوم يعود المشهد بشكل آخر ليس في الغابات البعيدة من هانوي بل في شوارع غزة المدمرة ، حيث تترنح الرواية الأمريكية تحت ضربات الواقع وتفقد واشنطن ما تبقى لها من أوراق الهيمنة الأخلاقية والسياسية.
في فيتنام خاضت الولايات المتحدة أطول حروبها وأكثرها كلفة ليس فقط بالعتاد والأرواح بل بالمكانة الدولية. وعندما سقطت سايغون عام 1975، لم يكن السقوط مجرد هزيمة عسكرية بل كان إعلانا مدويا لانهيار سردية القوة المطلقة. وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فاليوم تتكرر الملامح ذاتها وإن اختلفت التفاصيل. ففي غزة تنكشف عورة الموقف الأمريكي أمام العالم: دعم أعمى لحليف يبطش بالمدنيين وإصرار على تسويق خطاب “الدفاع عن النفس” في وقت لم يعد فيه العالم بحاجة إلى عدسات الإعلام الأمريكي ليرى الحقيقة بل يكفيه هاتف محمول يوثق المشهد في لحظته.
الفرق أن في فيتنام كان الصمت الأمريكي يخفي العجز عن مواجهة حرب عصابات أرهقت جيشها. أما في غزة فالصمت المدوّي يكمن في العجز عن مواجهة الحقيقة: لم تعد واشنطن قادرة على إقناع العالم بأن دماء الأطفال يمكن تبريرها ولم تعد تحكم قبضتها على رواية واحدة. الإعلام الرقمي والوعي الشعبي والانتفاضات في الجامعات الغربية نفسها كلها كشفت أن الرواية الأمريكية تفقد وزنها وأن “القوة الناعمة” التي بنتها أمريكا على مدار عقود تنهار أمام صور المجازر الحية.
المثير أن هذه ليست المعركة الأولى التي تخسرها أمريكا على مائدة القيم قبل ميادين القتال. بعد فيتنام جاءت العراق حيث سقطت أسطورة “التحرير” تحت ركام بغداد وجاءت أفغانستان حيث خرجت القوات الأمريكية بعد عقدين من الحرب بذات المشهد الذي تكرر في سايغون: طائرات تهرب من كابول تحت رعب سقوط حلفائها. ومع غزة، تضيف واشنطن فصلا جديدا إلى سلسلة معاركها الخاسرة لكن الفارق أن العالم الآن يملك عيونا مفتوحة وصوتا لم يعد يُمكن إسكاتُه.
قد تملك أمريكا السلاح لكنها تخسر الخطاب. قد تتحكم في قرارات مجلس الأمن لكنها عاجزة عن التحكم في ضمير الشعوب. وقد تُنفق مليارات على الدعاية السياسية لكن تغريدة واحدة أو مقطع فيديو من قلب غزة قادر على نسف كل هذا. إن ما يحدث اليوم ليس مجرد معركة بين الاحتلال والمقاومة بل هو امتحان عالمي لمكانة أمريكا في النظام الدولي. فبينما تظن واشنطن أنها تحمي حليفها تجد نفسها تخسر حلفاءها الآخرين بصمت وتخسر صورتها التي كانت تساوي أكثر من حاملات الطائرات والصواريخ.
التاريخ يُسجّل اليوم في فلسطين كما سُجّل بالأمس في فيتنام: أمريكا لم تفشل فقط في الانتصار عسكريا بل فشلت في أن تُقنع العالم بجدوى معاركها. وبين هانوي وغزة يمتد خيط واحد: قوة عظمى تملك كل شيء إلا الشرعية وتظن أن الصمت قد يخفي الحقيقة ، بينما الصمت نفسه يتحول إلى ضجيج يفضحها أمام الجميع.
إن أمريكا اليوم لا تسقط بضربة واحدة بل بانكشاف بطيء ومتدرج أشبه بتآكل جدار ضخم بفعل شقوق صغيرة حتى ينهار فجأة. غزة ليست مجرد محطة في هذا المسار بل هي جرس إنذار يذكّر بأن من يخسر معاركه الأخلاقية يخسر بالضرورة موقعه في التاريخ.
