شحاتة زكريا يكتب: موقف فرنسا من القضية الفلسطينية .. اعتراف ودعوة لقوة أممية في غزة

3

لم يكن إعلان فرنسا اعترافها الرسمي بالدولة الفلسطينية مجرد خطوة بروتوكولية أو لفتة دبلوماسية عابرة بل هو تحول نوعي في الموقف الأوروبي ورسالة سياسية قوية تتجاوز حدود باريس لتصيب قلب المعادلة الدولية في الصراع العربي–الإسرائيلي. فالدولة التي لعبت تاريخيًا دورا مركزيا في صياغة مواقف الاتحاد الأوروبي من الشرق الأوسط تخرج اليوم بمبادرة غير مسبوقة تدعو إلى نشر قوة أممية لحفظ السلام في غزة بعد سنوات طويلة من التعثر الدبلوماسي وازدواجية المعايير الغربية.

الخطوة الفرنسية تكتسب أهمية مضاعفة لعدة أسباب. أولا لأنها تأتي في وقت بالغ الحساسية إذ لا تزال الحرب في غزة تلقي بظلالها على الإقليم والعالم وتكشف عجز المجتمع الدولي عن وقف آلة القتل والدمار. وثانيا لأنها تنسف الحجة الإسرائيلية بأن أوروبا ستظل أسيرة الرؤية الأمريكية وتعيد الاعتبار لفكرة أن ثمة صوتا أوروبيا مستقلا قادرا على اتخاذ قرار شجاع. وثالثا لأنها تضع المجتمع الدولي أمام اختبار جديد: إما أن يتحرك بجدية لترجمة الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى واقع ملموس أو أن يظل أسير بيانات الشجب والتنديد.

الدعوة إلى قوة أممية في غزة تعكس إدراكا فرنسيا بأن الاعتراف وحده لا يكفي. فالتجربة التاريخية أظهرت أن القرارات الدولية مهما كانت قوتها لا تجد طريقها للتنفيذ دون آليات واقعية على الأرض. ومن هنا جاءت الرؤية الفرنسية لتوفير مظلة دولية تضمن حماية المدنيين وتعيد فتح المجال أمام عملية سياسية جديدة تُعيد للقضية الفلسطينية زخمها المفقود. إنها محاولة لإحياء دور الأمم المتحدة الذي جرى تهميشه طويلا وإعادة طرحها كفاعل رئيسي لا يمكن تجاوزه.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن لمثل هذه المبادرة أن ترى النور وسط التوازنات المعقدة في مجلس الأمن؟ التجارب السابقة تقول إن أي خطوة من هذا النوع ستصطدم مباشرة بالفيتو الأمريكي، الذي كان ولا يزال السند الأكبر لإسرائيل في وجه أي تحرك دولي ملزم. ومع ذلك، فإن مجرد طرح المبادرة يضع الولايات المتحدة في زاوية صعبة، ويحرجها أمام الرأي العام العالمي الذي بدأ يفقد الثقة في مصداقية الغرب وشعاراته عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ثم إن الخطوة الفرنسية تحمل أبعادا رمزية لا تقل أهمية عن مضمونها العملي. فهي بمثابة رسالة إلى الفلسطينيين مفادها أن العالم لم ينس قضيتهم ، وأن هناك من يملك الجرأة للخروج من أسر الصمت والتواطؤ. كما أنها رسالة إلى إسرائيل بأن الشرعية الدولية لا يمكن أن تُختزل في قوة السلاح أو الدعم الأمريكي وأن ثمة من يجرؤ على القول إن الدولة الفلسطينية حق ثابت لا يسقط بالتقادم.

لا شك أن الموقف الفرنسي سيثير انقساما داخل أوروبا نفسها ، بين دول ترى في الاعتراف حافزا لبدء مسار جديد نحو السلام وأخرى تخشى أن يؤدي ذلك إلى توتر مع واشنطن أو إلى مزيد من التصلب الإسرائيلي. لكن التاريخ علمنا أن المبادرات الجريئة تبدأ غالبا من قرار منفرد ثم تتحول إلى تيار عام يفرض نفسه على الساحة الدولية. ولعل ما قامت به فرنسا يكون الشرارة التي تُخرج المواقف الأوروبية من حالة الجمود إلى فضاء الفعل السياسي الفاعل.

في المحصلة لم يعد الفلسطينيون في حاجة إلى بيانات عاطفية أو مؤتمرات شكلية بقدر حاجتهم إلى خطوات عملية تعيد الاعتبار لحقهم المشروع في الدولة والاستقلال. والموقف الفرنسي ، برغم كل التحديات التي قد تعترضه، يمثل بارقة أمل بأن ثمة إمكانية لتغيير قواعد اللعبة، وفتح نافذة جديدة نحو العدالة.

إن الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس منّة من أحد بل هو استحقاق تاريخي وإنساني طال انتظاره. وإذا كانت باريس قد قررت أن تكتب اسمها في سجل الدول التي وقفت مع الحق في لحظة فارقة، فإن الكرة الآن في ملعب المجتمع الدولي ليبرهن على أن العدالة ليست مجرد شعار بل فعل وإرادة.