شحاتة زكريا يكتب: نصر بالأمس.. ورسالة للغد: لا تنكسر مصر
حين نتأمل السادس من أكتوبر 1973 لا نرى فقط يوما في التاريخ بل نرى لحظة انكسار المستحيل. كانت مصر حينها تعيد تعريف معنى الإرادة في زمن فقد فيه العرب الثقة بقدرتهم على النهوض. لم يكن العبور مجرد عملية عسكرية بل عبورا وطنيا من الهزيمة إلى الوعي من اليأس إلى الفعل ومن حدود الجغرافيا إلى فضاء الكرامة.
لم تكن المعركة بالسلاح وحده بل بالعقل أولا. فكل جندي على خط النار كان يحمل في صدره وطنا بأكمله وكل خطة في غرفة القيادة كانت تُكتب بمداد الإصرار. انتصر المصريون لأنهم قرروا ألا يعيشوا أبدا في ظلال الانكسار. تلك كانت البداية الجديدة لتاريخ طويل من الصلابة تُجسّد فيها مصر دروسها العميقة: أن الكبرياء لا يُشترى وأن من يعرف طريق المجد مرة لا يضلّه أبدا.
لكن جمال النصر الحقيقي لا يكمن في الماضي وحده بل في رسالته الممتدة إلى الحاضر والمستقبل. فحين نحتفل بأكتوبر نحن لا نستعيد صور الدبابات والعبور فقط بل نستعيد الروح التي جعلت المستحيل ممكنا. نحتفل بفكرة أن الشعوب التي تصنع وعيها بعرقها ودمها لا يمكن أن تُكسر مهما اشتدت عليها العواصف.
اليوم تواجه مصر تحديات من نوع جديد: معارك التنمية ومشروعات البقاء وحروب الوعي في عالم يعيد صياغة الخرائط والمفاهيم. لم تعد البنادق هي السلاح الأهم بل الفكر، والإدارة، والإصرار على أن تكون الدولة حاضرة ومتماسكة وسط إقليم ينهار من حولها. وكما كان العبور معجزة الإرادة في السبعينيات فإن عبور الحاضر هو معجزة البناء رغم الضغوط.
من يقرأ قصة مصر بعيون منصفة يدرك أن هذا البلد وُلد ليبقى. كل أزمة مرت عليه كانت امتحانا جديدا لصلابة جوهره وكل سقوط مؤقت كان خطوة إلى ما هو أعلى. لم تكن الصحراء التي عبرها الجندي في 73 أكثر قسوة مما نواجهه اليوم في معركة الاقتصاد أو الوعي لكن الفرق أن مصر لم تفقد يومًا إيمانها بنفسها.
ربما يتغير العالم من حولنا، وربما تتبدل التحالفات، لكن تظل معادلة واحدة لا تتغير: مصر لا تنكسر. لا لأنها تملك قوة عسكرية أو موقعًا استراتيجيًا فحسب، بل لأنها تملك ما هو أعمق — روحًا تصنع التاريخ ولا تستسلم له.
هذا الوطن الذي أعاد للعرب ثقتهم في النصر يواصل اليوم كتابة فصول جديدة من كفاح الوعي والبناء. وكلما حاولت الرياح أن تهزمه تذكّر درسه الأول: أن النصر الحقيقي ليس عبور قناة بل عبور أمة نحو المستقبل.
في ذكرى أكتوبر لا نحتاج إلى خطاب يُذكّرنا بما حدث بل إلى وعي يدفعنا لما يجب أن يحدث. أن نحافظ على ما بُني وأن نحمي ما تحقق وأن ندرك أن معركة الغد لا تقل شرفا عن معركة الأمس. فمصر التي واجهت المدافع قادرة على مواجهة الأزمات. ومصر التي عبرت القناة قادرة على عبور القرن الجديد بثقة وكرامة ووضوح رؤية.
لقد علّمتنا أكتوبر أن المجد لا يُورث بل يُصنع كل يوم وأن الانتصار ليس لحظة في الماضي بل حالة وعي مستمرة. وحين يلتقي وعي الأمة بإرادة شعبها وقيادتها يصبح المستقبل امتدادا طبيعيا للنصر.
إنها الرسالة التي يرسلها التاريخ لكل من يقرأه بعين مفتوحة: لا تنكسر مصر لأنها ببساطة خُلقت لتقوم مهما سقط العالم من حولها.
