شحاتة زكريا يكتب: هل تعود الدبلوماسية لتقود العالم بعيدا عن حافة الهاوية؟

65

في اللحظة التي يبدو فيها العالم وكأنه يقترب من نقطة اللاعودة تعود الدبلوماسية لتطلّ برأسها في محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. الأزمات المتلاحقة من الحروب الإقليمية إلى التوترات بين القوى الكبرى كشفت هشاشة النظام الدولي وقدرته المحدودة على امتصاص الصدمات. ورغم أن مشهد القوة الصلبة يسيطر على العناوين الرئيسية فإن المسار الحقيقي الذي سيحدد شكل العالم في العقود المقبلة قد يكون طريقا أكثر هدوءا ، طريق التفاوض والحوار وبناء التوازنات الجديدة. لم يعد السؤال المطروح: هل تستطيع الحروب حسم الصراعات؟ فقد تجاوزه الزمن. السؤال الأخطر اليوم: هل تملك الدول الشجاعة الكافية لوقف دوامة التصعيد والعودة إلى طاولة تفاوض لم تعد قادرة على الانتظار؟

تشهد الساحة الدولية حالة غير مسبوقة من التشابك بين الأزمات. صراع النفوذ بين الولايات المتحدة والصين يضغط على كل مساحات العالم ، من بحر الصين الجنوبي إلى قلب إفريقيا. أوروبا تعيش أكبر حالة استنفار عسكري منذ الحرب الباردة بينما تخضع دول الجنوب العالمي لتقلبات اقتصادية وسياسية تجعلها أكثر عرضة لضغوط القوى الكبرى. وفي الشرق الأوسط تتداخل الحروب بالتحالفات، وتتداخل رسائل القوة بالدبلوماسية الهشة التي تُختبر في كل منعطف. كل ذلك خلق ما يشبه الفوضى المنظمة ، حيث لا أحد يريد الحرب الشاملة لكن الجميع يمارس سياسات تقرّب العالم منها خطوة بعد خطوة. هذا التناقض الصارخ يجعل الحاجة إلى دبلوماسية جديدة أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.

لم تعد الدبلوماسية اليوم مجرد بيانات سياسية أو لقاءات شكلية على هامش المؤتمرات الدولية. العالم يواجه نوعا جديدا من العلاقات الدولية يتطلب دبلوماسية تتجاوز البروتوكولات التقليدية وتقترب أكثر من مفهوم “إدارة المخاطر”. هذه الدبلوماسية الجديدة ليست رفاهية بل ضرورة وجودية. فالدول باتت تدرك أن تفاقم الأزمات لم يعد قابلا للاحتواء وأن استمرار التصعيد سيؤدي إلى نتائج لا يمكن لأي قوة في العالم تحمل تبعاتها. من هنا ظهرت حوارات غير مباشرة بين القوى الكبرى وتفاهمات أمنية هادئة ومحاولات لخلق نقاط توازن جديدة تعيد ضبط حرارة العالم.

منطقة الشرق الأوسط تمثل اليوم المسرح الأكثر تعقيدا للدبلوماسية. كل أزمة فيها تحمل أبعادا إقليمية ودولية متداخلة. لكن في الوقت نفسه برزت تحركات سياسية غير مسبوقة، من مصالحة عربية–عربية أعادت ترتيب البيت الداخلي إلى مسار تهدئة بين دول كانت في حالة استقطاب حاد، وصولًا إلى تحولات في السياسة الإقليمية تضع التنمية الاقتصادية فوق الاعتبارات الصدامية القديمة. هذه الخطوات ليست مجرد مصالحات بين دول بل تعبير عن إدراك مشترك بأن استمرار الصراعات سيحرم الجميع من فرص التنمية وأن الأمن الإقليمي لا يُبنى بالقوة وحدها. وهنا تحديدًا تتجلى الفرصة: إذا نجحت المنطقة في تثبيت هذه المسارات فإنها قد تتحول إلى نموذج لدبلوماسية جديدة تُعيد تعريف معادلة القوة في العالم.

التحولات السياسية لم تعد حكرا على الحكومات. الرأي العام العالمي اليوم أصبح لاعبا مؤثرا في القرارات الكبرى. الشعوب لم تعد تقبل بسياسات تجر دولها إلى حروب غير محسوبة أو تقلبات اقتصادية متتابعة أو صراعات نفوذ لا تجلب سوى الخسائر. وهذا الوعي الشعبي الجديد يدفع كثيرا من الحكومات إلى إعادة التفكير في أدواتها السياسية وإلى إدراك أن الدبلوماسية ليست مجرد خيار بل مطلب شعبي متزايد. وقد شهد العالم ذلك في موجات الرفض الواسعة للحروب وفي الدعم المتصاعد لحلول سياسية للأزمات المعقدة وصولا إلى ازدياد قوة المجتمعات المدنية وتأثيرها في توجيه البوصلة السياسية.

رغم القتامة التي تهيمن على المشهد الدولي هناك مؤشرات تقول إن العالم يقف على أعتاب انتقال جديد. تراجع الخطاب العدائي في بعض الملفات وعودة قنوات التواصل بين خصوم الأمس وتزايد الحاجة إلى نموذج اقتصادي عالمي أكثر عدالة كلها مؤشرات تؤكد أن الدبلوماسية قد تستعيد دورها المركزي. لكن نجاح هذه العودة يتوقف على إرادة سياسية قادرة على تجاوز الحسابات الضيقة ورؤية شاملة تدرك أن العالم يحتاج تعاونا أكثر مما يحتاج صراعا وشجاعة قيادات تستطيع اتخاذ قرارات صعبة في لحظات مصيرية.

العالم اليوم لا يحتاج إلى مزيد من الخطابات القوية بقدر ما يحتاج إلى قرارات شجاعة توقف انزلاقه نحو المجهول. والحقيقة أن الحروب مهما امتلكت من أدوات لا يمكنها بناء سلام وأن القوة مهما كانت قادرة على فرض واقع مؤقت فإنها عاجزة عن صياغة مستقبل مستقر. لذلك يبقى السؤال مفتوحا: هل تتقدم الدبلوماسية خطوة قبل أن يتراجع العالم خطوة إلى الهاوية؟ الإجابة ليست في يد دولة واحدة ولا في تحالف واحد بل في قدرة العالم على الاعتراف بأن اللحظة الحالية ليست لحظة صراع بل لحظة نجاة. وإذا اختار العالم طريق الدبلوماسية فإن السنوات القادمة قد تكون بداية عصر جديد عصر تُبنى فيه القوة على الاستقرار ويُصاغ فيه المستقبل بالحوار لا بالمدافع وبالعقل لا بالتهور.