شحاتة زكريا يكتب: واشنطن بين شبح الانسحاب ومسرح النفوذ
تعيش واشنطن اليوم لحظة فارقة في تاريخها السياسي والعسكري لحظة لا تقل خطورة عن تلك التي أعقبت حرب فيتنام أو انهيار الاتحاد السوفييتي. لكنها هذه المرة تقف بين شبح الانسحاب من مناطق التوتر التي استنزفتها طويلا وبين إغراء البقاء على مسرح النفوذ الذي صاغت ملامحه منذ الحرب العالمية الثانية. إنها لحظة التردد بين إمبراطورية أنهكتها كثرة الحروب ودولة تخشى فقدان موقعها على خريطة القيادة العالمية.
منذ عقدين تقريبا خاضت الولايات المتحدة أكثر الحروب كلفةً في تاريخها الحديث من العراق إلى أفغانستان ثم عادت لتجد نفسها محاصرة بأسئلة الداخل: لماذا ندفع الثمن بينما لا نحصد العائد؟ كانت تلك الأسئلة هي الشرارة الأولى لتحوّل داخلي عميق تجسّد في شعار أمريكا أولا ثم تطور إلى رؤية أكثر تعقيدا: أمريكا لا تحارب إلا حيث تكسب.
لكن مع كل إعلان عن انسحاب كانت واشنطن تترك وراءها فراغا سرعان ما تملؤه قوى أخرى. انسحبت من أفغانستان فتمدّد طالبان. تراجعت من سوريا فدخلت روسيا وإيران. قلّصت وجودها في العراق فتعزز النفوذ الإيراني. حتى في إفريقيا التي كانت لعقود ساحة النفوذ الغربي التقليدي بدأت الصين وروسيا وتركيا وإيران في اقتسام الفراغ. هكذا وجدت واشنطن نفسها أمام معادلة صعبة: كل خطوة انسحاب تُترجم فورا إلى مساحة نفوذ جديدة لمنافس أو خصم.
على الجانب الآخر ما زالت مؤسسات صنع القرار الأمريكية تدرك أن الانسحاب الكامل من مسرح الشرق الأوسط أو حتى من آسيا وإفريقيا يعني خسارة أوراق استراتيجية لا تُعوّض. لذلك نراها اليوم تعيد صياغة شكل الوجود لا مضمونه. فبدلا من الجيوش الضخمة هناك قواعد متحركة وطائرات مسيّرة وحروب بالوكالة. وبدلا من الاحتلال المباشر هناك نفوذ عبر التكنولوجيا والسلاح والاقتصاد والإعلام. إنه انسحاب من الشكل العسكري إلى الشكل الذكي ؛ إعادة تعريف للقوة بما يتناسب مع طبيعة القرن الحادي والعشرين.
غير أن هذه القوة الذكية ليست بلا ثمن. فالولايات المتحدة تكتشف أن السيطرة عبر النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي لا تقل كلفة عن الاحتلال العسكري خصوصا في عالم بدأ يبتعد عن الدولار ويبحث عن عملات بديلة ويشكك في عدالة النظام المالي الذي أسسته واشنطن ذات يوم. وهنا تحديدا يتجلى التناقض الأكبر: أمريكا التي تُحاول إعادة تموضعها لتبدو أكثر مرونة تبدو في الوقت ذاته أكثر هشاشة أمام نظام عالمي يتغير بسرعة تفوق قدرتها على الضبط أو الاحتواء.
في الشرق الأوسط تبدو الصورة أكثر تعقيدا. فمصر والسعودية والإمارات وإيران وتركيا باتت تمتلك من أوراق الفعل الإقليمي ما لم يكن متاحا قبل عقدين والفاعلون الجدد لا ينتظرون إشارة من واشنطن ليقرروا. الحرب في غزة والأزمة في البحر الأحمر والملفات الإفريقية كشفت جميعها أن القرار لم يعد يمر عبر البوابة الأمريكية وحدها. بل إن بعض التحركات المصرية والسعودية – خاصة في قضايا الطاقة والوساطة الإقليمية – أظهرت أن واشنطن لم تعد الراعي الأوحد بل مجرد طرف من أطراف التوازن.
لقد أدركت العواصم الإقليمية أن زمن التبعية انتهى وأن المصالح لا تُدار بالعاطفة ، بل بمعادلة جديدة من الشراكة والندية. وهذا تحديدا ما يُربك واشنطن: كيف تتعامل مع شركاء لم يعودوا ينتظرون أوامرها بل يتحدثون بلغتهم الخاصة ويصوغون أولوياتهم بأنفسهم؟
ربما لهذا تبدو الإدارة الأمريكية وكأنها تمشي على حبل مشدود بين الانسحاب الآمن والبقاء الذكي. فهي لا تستطيع أن تُغادر العالم ولا أن تُدير العالم بالطريقة القديمة. لذا تراها تلوّح بالعقوبات حينا وبالمساعدات حينا آخر وتحاول عبر الإعلام والسياسة والدبلوماسية أن تُعيد تموضعها بما يضمن استمرار النفوذ دون تحمل الأعباء.
لكن المؤكد أن العالم لم يعد كما كان. فالقوى الصاعدة من الشرق والتحالفات الجديدة التي تتشكل بعيدا عن واشنطن تفرض واقعا مختلفا يجعل الولايات المتحدة مضطرة لأن تعيد تعريف دورها ومفهوم نفوذها في عالم تتغير خرائطه كل يوم.
قد تنسحب واشنطن من بعض الجبهات لكنها لن تنسحب من فكرة القيادة. فالإمبراطورية الأمريكية – وإن بدت متعبة – ما زالت تملك أدوات البقاء: التكنولوجيا، الدولار، الإعلام، والقدرة على صناعة السرديات. إلا أن السؤال الحقيقي يبقى:
هل يكفي النفوذ بلا هيمنة؟ وهل تستطيع أمريكا أن تبقى في المسرح وهي تتراجع عن خشبته؟
بقلم: شحاتة زكريا
