شحاتة زكريا يكتب: واشنطن في اختبار المصداقية.. من يملك رواية السلام؟

0

تبدو واشنطن اليوم كما لو كانت أمام مرآة لا تعرف كيف تنظر فيها. فالعالم الذي كان يوما يستقبل تصريحاتها كحقيقة مطلقة بات يتعامل مع خطابها في قضايا الحرب والسلام بوصفه رواية منقوصة لا تعكس دائما الوقائع على الأرض. والمفارقة أن هذا التحول لم يصنعه الخصوم بقدر ما صنعته واشنطن بنفسها حين تناقضت أفعالها مع أقوالها وبدت رسائلها السياسية متقلبة وفقا لزاوية المصلحة لا زاوية العدالة.

منذ عقود قدّمت الولايات المتحدة نفسها باعتبارها راع للسلام في الشرق الأوسط لكنها سرعان ما تحولت إلى طرف يحمي اختلال التوازن أكثر مما يسعى لإصلاحه. واليوم مع اندلاع موجات جديدة من الصراع في المنطقة خاصة في غزة يقف العالم أمام لحظة حاسمة يختبر فيها مدى جدية واشنطن في الدفاع عن القيم التي طالما تباهت بها. فكيف يمكن لدولة تزعم دعم حقوق الإنسان أن تتغاضى عن معاناة المدنيين؟ وكيف يمكن لمن يطالب الآخرين بضبط النفس أن يمنح السلاح بلا حدود لطرفٍ واحد في النزاع؟

المعضلة الأمريكية لا تتعلق فقط بالسياسة الخارجية بل بالمصداقية الأخلاقية التي تآكلت بفعل ازدواجية المعايير. لم يعد العالم يرى واشنطن باعتبارها مركزا للقرار العاقل بل قوة تبحث عن تثبيت نفوذها بأي ثمن. ومع صعود أقطاب جديدة مثل الصين وروسيا وتنامي أدوار دبلوماسية لدول إقليمية – وفي مقدمتها مصر – باتت اللغة الأمريكية التقليدية عن الوساطة والسلام أقل إقناعا وأكثر انكشافا أمام الواقع.

لقد تحركت القاهرة في الأسابيع الماضية بثقل وهدوء لتفتح ثغرة في جدار النار بين غزة وتل أبيب وتضع حجر الأساس لتهدئة طال انتظارها. لم ترفع شعارات ولم تبحث عن مكاسب إعلامية بل تحدثت بلغة الفعل لا بالتصريحات. وبينما كانت واشنطن تكرر بيانات القلق العميق كانت القاهرة تجمع الأطراف وتكتب على الأرض ما تعجز الإدارات المتعاقبة عن كتابته في البيانات. هنا تحديدا يظهر الفارق بين من يصنع الحدث ومن يعلق عليه.

في اختبار المصداقية هذا لا يملك أحد ترف الحياد. فإما أن تكون مؤمنا بأن حياة المدنيين قيمة غير قابلة للمساومة، أو أنك جزء من ماكينة الحرب التي تدور دون توقف. العالم يراقب واشنطن لا لكونها الأقوى بل لأنها هي التي وضعت معايير اللعبة واليوم تبدو عاجزة عن الالتزام بها. فكل بيان جديد يصدر من البيت الأبيض حول غزة وكل تصريح عن حق الدفاع عن النفس يُقابله تساؤل مشروع: وأين حق الحياة للآخرين؟

اللافت أن واشنطن لم تعد تحتكر السردية كما في الماضي. الإعلام العالمي لم يعد يردد روايتها دون تمحيص والرأي العام الأمريكي نفسه بدأ يتساءل عن جدوى دعم غير مشروط لحروب لا تُكسب أحدا سوى المجمع الصناعي العسكري. أما في العالم العربي فقد صار واضحا أن موازين القوة لم تعد تقاس بما تملكه الدول من سلاح بل بما تملكه من تأثير وقدرة على بناء الجسور وقت الانهيار. ومصر اليوم تمثل هذا النموذج النادر حيث تجمع بين الحكمة والجرأة وبين الواقعية والمبدأ.

حين تتراجع واشنطن عن دورها كصانعٍ للسلام تتقدم القاهرة لتعيد تعريف هذا الدور. ليس لأن مصر تسعى لمكان في التاريخ بل لأنها تعتبر السلام مسؤولية لا صفقة. وهذا ما يجعلها محل احترام العالم ومصدر توازن في منطقة اعتادت على الفوضى.

في النهاية يظل السؤال مفتوحا:
من يملك رواية السلام؟
الإجابة لا تُقاس بعدد الطائرات أو التصريحات بل بقدرة كل طرف على حماية الإنسان من أن يكون رقما في نشرات الأخبار. وفي هذا الامتحان الصعب يبدو أن واشنطن فقدت كثيرا من ثقة العالم بينما ربحت القاهرة ما هو أثمن من النفوذ.. ربحت احترام الضمير الإنساني.