شحاتة زكريا يكتب : واشنطن وورقة النار .. كيف تصنع أمريكا أزماتها وتستثمرها؟

9

لم تكن واشنطن يوما تكتفي بدور المتفرج في مشهد الأزمات الدولية ، بل كانت دوما المخرج والمُنتج والمُمثل في آن واحد. فحين تتأمل المشهد العالمي من العراق إلى أوكرانيا، ومن تايوان إلى غزة، تدرك أن أمريكا لا تُطفئ نارا إلا وقد أشعلت ثلاثا ولا تدخل أزمة إلا وقد رتبت مكاسبها قبل أن تُحرك قطعة شطرنج واحدة.

إنها السياسة الأمريكية في أنقى صورها: تخلق الفوضى ثم تعرض نفسها كمنقذ. تُسقط نظامًا ثم تعلن حربًا من أجل الديمقراطية. تُشعل نزاعًا ثم تُلقي بنفسها في معمعة الوساطة. وما أكثر ما كان الدم العربي وقودا لمسرحيات الهيمنة الأمريكية.

لعل أوضح تجليات تلك الاستراتيجية كانت في غزو العراق عام 2003 حيث بُنيت الحرب على كذبة كبرى: أسلحة الدمار الشامل. وما إن سقطت بغداد حتى تكشّف المشهد عن كعكة مقسمة بين شركات النفط الأمريكية ومقاولي الإعمار بينما ضاع وطن بكامله في غياهب الطائفية والاحتراب الأهلي.

ولم يكن العراق إلا حلقة في سلسلة طويلة. فقبلها كانت أفغانستان التي تحولت من ساحة لمحاربة الإرهاب إلى مستنقع تستنزف فيه واشنطن مواردها بينما تُهيمن على موقع استراتيجي حيوي في آسيا الوسطى. وبعدها جاءت ليبيا، وسوريا، واليمن، حيث رفعت أمريكا شعار الحرية لكنها في الحقيقة مارست أكثر أشكال الفوضى توحشا.

اليوم تعيد واشنطن إنتاج ذات اللعبة ولكن بذكاء أعلى وإخراج أكثر احترافًا. الأزمة الأوكرانية مثلًا بدأت باستفزاز مباشر لروسيا عبر التوسع في الناتو ثم بتأييد صريح لانقلاب كييف لينفجر المشهد بحرب شاملة تتحول فيها أوكرانيا إلى مخزن للعتاد الأمريكي وساحة لتصفية الحسابات مع موسكو. بينما يجني المجمع الصناعي العسكري الأمريكي أرباحًا خيالية ويُستنزف الاقتصاد الأوروبي وتُعاد هندسة التبعية الغربية لصالح البيت الأبيض.

وفي الشرق تُوظف ورقة تايوان لا لحماية شعبها أو تعزيز استقلالها بل لجرّ الصين إلى مواجهة استراتيجية طويلة الأمد تُستنزف فيها بكين اقتصاديا وتُشوه صورتها دوليًا وكل ذلك تحت شعار حماية “الديمقراطية” من الديكتاتوريات الصاعدة.

أما في منطقتنا العربية فتبدو أمريكا وكأنها تُشعل الحريق بيد وتُمسك بدلو الماء باليد الأخرى. تدعم إسرائيل دعما مطلقا ، حتى وهي ترتكب المجازر ثم تدّعي الحرص على حل الدولتين ! تُلوّح بالعقوبات تارة وتفاوض على النفط والغاز والصفقات العسكرية تارة أخرى بحسب موازين الربح والخسارة.

اللافت أن واشنطن لم تعد تُخفي ذلك بل صارت تُعلنه. فمراكز الفكر الأمريكية تتحدث بصراحة عن “هندسة الفوضى” كأداة لضمان التفوق الأمريكي. وكبار الساسة والمحللين يقرّون بأن الحروب غير المباشرة أرخص وأكثر جدوى وتمنح أمريكا فرصة الإمساك بكل الخيوط دون أن تُلطخ يدها علنًا.

إن السؤال الأخطر اليوم ليس: كيف تُشعل أمريكا الحروب؟ بل: لماذا ما زال العالم يُصدّق أنها قائدة للسلام؟ وكيف تستمر في ابتزاز الحلفاء والخصوم على حد سواء دون أن تواجه مساءلة حقيقية من المجتمع الدولي؟

الجواب المؤلم: أن واشنطن ما زالت تُتقن اللعبة وما زال الآخرون يلعبون ضمن قواعدها. فلا نظام عالمي جديد وُلِد ولا موازين الردع تغيّرت فعليا. وإن كانت قوى مثل البريكس تُعلن تحدي الهيمنة فإن الطريق لا يزال طويلا وتكلفة الخروج من عباءة الدولار أعظم من مجرد بيانات مشتركة ومؤتمرات قمة.

إن أمريكا تُدير أزماتها مثل ورقة نار: تحرق بها خصومها وتدفئ مصالحها وتفرض بها شروطها. لكنّ لعبة النار، مهما طال أمدها لا بُدّ أن تُحرق اللاعب ذاته إن أساء التقدير.