شحانة زكريا يكتب : العالم من غزة إلى أوكرانيا.. من يكتب ميثاق الدم الجديد؟
لم تعد الحرب مجرد صراع مسلح على أرض بعينها بل تحوّلت إلى معركة كونية على المعنى والعدالة والضمير الإنساني. ومن غزة إلى أوكرانيا يُعاد رسم ملامح عالم جديد لا يُكتب بالحبر على موائد الدبلوماسية، بل يُنقش بالدم والأنقاض وتُحدده ازدواجية المعايير قبل أن يُقرره ميزان القوة.
في أوكرانيا اندفعت القوى الغربية بكل أدواتها نحو دعم حكومة كييف ، معلنة أن ما يجري غزو صريح يجب صده بكل الوسائل وسرعان ما تحوّلت أوكرانيا إلى رمز للمقاومة والحرية، واستُحضرت كل مفردات القانون الدولي وحقوق الإنسان والكرامة. أما في غزة حيث يُحاصر الملايين ويُقتل الأطفال والنساء ويُقصف البشر والحجر فإن الصمت يتكلم والعدالة تتوارى وتُكافأ دولة الاحتلال سياسيا وعسكريا على جرائم موثقة تُبثّ على الهواء مباشرة.
هذا التناقض لا يُفسر فقط بازدواجية المواقف بل بتبدّل عميق في منظومة القيم الدولية. لقد أصبح الدم يُقاس بجنسية صاحبه والضحية تُمنح شهادتها من المراكز البحثية لا من ميادين القتل والعدو يُحدده تحالف المصالح لا الحقائق. العالم لا يعيش أزمة أخلاقية عابرة ، بل يؤسس لميثاق دم جديد ، لا يسند الشرعية إلى الحق ، بل إلى من يمتلك الصوت الأعلى واليد الأطول.
في غزة يقف الفلسطيني أعزل أمام آلة عسكرية فتاكة ومع ذلك يُحاسب على مقاومته وتُنتزع منه شرعية الدفاع عن وجوده. بينما في أوكرانيا تُغلف مقاومة الجيش الروسي بهالة من البطولة وتُرصّ الجوائز لمدافعي المدن ويُعاد رسم صورة “المقاومة الشريفة” بلون أوروبي نقي وكأن القانون الدولي وحقوق الشعوب تُطبق بلون البشرة وحدود الجغرافيا.
اللافت أن الرواية لا الرصاصة باتت سلاحا حاسما. من يمتلك حقّ السرد هو من يُحسم له الصراع في أذهان العالم. ولأن الفلسطينيين تمكّنوا أخيرا من كسر طوق الصمت وكشف زيف الرواية الإسرائيلية بدأنا نرى حالة ارتباك حقيقية في خطاب الاحتلال ومحاولات فاشلة لتبرير المجازر في ظل رأي عام عالمي بدأ يتحرّك رغم أنف الساسة.
في الوقت نفسه.تُعيد الحرب الأوكرانية تشكيل التحالفات الكبرى. أوروبا تحشد والناتو يتوسّع وأمريكا تعود لتتصدر المشهد كزعيمة للعالم الحر. لكنها تعود مثقلة بكيلين من المعايير حيث تسكت على قتل آلاف المدنيين في غزة وتدعم آلة الاحتلال بالسلاح ثم تدعو في ذات الوقت لاحترام القوانين الدولية في أوكرانيا. هذه الانتقائية ليست مجرد ازدواج أخلاقي بل هي إعلان واضح أن الميثاق الدولي الجديد يُكتب وفقًا لمصالح الأقوياء لا لمبادئ العدل.
من يكتب هذا الميثاق إذًا؟ الكبار الذين يملكون المال والسلاح؟ أم الشعوب التي تكتب بدمها وثباتها معاني جديدة للحرية؟ بين الركام في غزة وفي الخنادق في أوكرانيا يُولد جيل جديد يعرف أن العالم لا يحكمه العدل لكنه لا يفقد إيمانه بأن الكلمة الصادقة إذا اشتعلت بالحق قد تقلب ميزان القوة.
وسط كل هذا الانهيار الأخلاقي تقف دول قليلة تُحاول أن توازن بين الحكمة والموقف. ومصر واحدة من هذه الدول إذ تُراهن على السياسة لا على المغامرة وتُحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من منطق الدولة والعقل في عالم يتجه نحو الجنون. لكنها تدرك أيضا أن هذا الدور لا يُثمر وحده ما لم تخرج الشعوب العربية من حالة الفرجة إلى حالة المبادرة وتعيد للوعي الجمعي صوته.
العالم يتغيّر لكن بأي كلفة؟ سؤال مفتوح على كل الاحتمالات. من غزة إلى أوكرانيا ومن البحر الأحمر إلى البحر الأسود تتطاير شظايا الميثاق القديم وتُكتب صفحة جديدة لا نعرف من يُمسك القلم فيها. لكن المؤكد أن الشعوب وإن خُذلت لن تظل صامتة إلى الأبد. فالميثاق الذي يُكتب بالدم لا يمحوه إلا وعيٌ حيّ وضمير لا يُساوم.
