شحانة زكريا يكتب : الملف الفلسطيني في ميزان المصالح.. من تخلّى ومن راهن؟
في عالم يُعاد فيه رسم الخرائط بالنار والدم لم يعد الملف الفلسطيني مجرد قضية إنسانية أو نزاع حدودي كما تصرّ بعض العواصم على تصويره. بل بات مرآة حقيقية لاختبار أخلاق السياسة الدولية ، وكاشفًا فاضحًا لتحوّلات المصالح وخسارات القيم وانكشاف الأقنعة.
منذ عقود ظلّ الشعب الفلسطيني يحمل جراحه في يد وغصن الزيتون في الأخرى بينما توزّعت العواصم بين من يُدينه خفية ومن يراهن عليه وهمًا ومن يتاجر به علنًا. لكنّ التحوّل الجذري جاء عندما دخلت إسرائيل مرحلة غير مسبوقة من الإفلات من المحاسبة وأصبحت تغتال الطفولة وتهدم المستشفيات وتُحاصر المدن ثم تُقدَّم على أنها “ضحية الإرهاب”.
أين كانت القوى الكبرى حين احترقت غزة؟ أين كانت الإنسانية حين اختنق الأطفال في حضن أمهاتهم؟لا إجابة واضحة سوى أن المصالح صارت أضخم من الضمير وأن التحالفات لم تعد تُبنى على الحق بل على من يملك الكلمة الأقوى في السوق لا في الأخلاق.
الرهان على تصفية القضية الفلسطينية ليس جديدًا. منذ اتفاقيات أوسلو وحتى صفقة القرن كانت هناك محاولات متكررة لإعادة تعريف “القضية” بما يخدم تصوّرا إسرائيليا أحاديا عن السلام يقوم على الأمن لا العدالة ، وعلى السلاح لا التعايش. ومع كل جولة عنف يتكرّر السؤال: هل ما زال هناك من يؤمن بأن للفلسطينيين حقًا في هذه الأرض ، وحقًا في الحياة وحقا في أن تُسمع روايتهم؟
المؤلم أن من بين المتخلّين ليس فقط بعض الساسة الدوليين بل أيضًا قطاعات من الرأي العام العالمي التي تمّت هندسة وعيها عبر سنوات من التزييف الإعلامي ، حتى باتت ترى المقتول قاتلًا والمُحاصر تهديدًا والمقاوم إرهابيًا.
ومع ذلك فإن الرهان على ذاكرة الشعوب لم يَخِب تمامًا. في كل زاوية من هذا العالم لا يزال هناك من يرفع علم فلسطين في الشوارع ويكتب عنها في الصحف ويُصوّت في البرلمانات ضد الحرب ويُحرج حكوماته بالصوت والصورة والموقف. هؤلاء لا يُراهنون على انتصار سياسي مؤقت بل على بقاء القضية حيّة في ضمير البشرية.
أما العرب فبينهم من قرأ اللحظة على حقيقتها وفهم أن قضية فلسطين ليست ورقة سياسية بل عنوان للعدالة في المنطقة بأسرها. وبينهم من انشغل بحسابات الداخل ، أو وقع في فخ “التطبيع كمنهج”، وظنّ أن القفز من فوق الجرح سيُعفيه من دفع الفاتورة لاحقا.
لقد صار واضحا الآن أن من تخلّى خسر نفسه قبل أن يخسر فلسطين. وأن من راهن على زوال القضية ، خابت حساباته. فغزة – التي احترقت مرارا – لم تمت. والقدس – التي ضاعت مرارا – لا تزال تقاوم. والمخيمات – التي أرادوا لها النسيان – تحوّلت إلى مدارس صبر وإرادة.
إن فلسطين اليوم ليست فقط اختبارا للضمير العالمي ، بل أيضا تحدّ مفتوح أمام كل من يريد لهذا العالم أن يكون أكثر عدلا وأقل نفاقا. فإما أن تنتصر الرواية الحقيقية أو يبقى العالم يدور في حلقة مفرغة من الخطابات التي لا تُنقذ طفلا ولا تُوقف صاروخا ولا تُعيد حياة مَن سقطوا تحت الركام.
ولعلّ السؤال الأهم الآن لم يعد: من تخلّى؟ فالتخلّي بات مكشوفا ومفضوحا. بل السؤال: من يجرؤ على إعادة التوازن إلى ميزان العدالة بعد أن اختلّ لصالح الباطل لزمن طويل؟
ففي النهاية لا تُقاس قيمة الأمم بما تربحه من صفقات بل بما تُدافع عنه من مبادئ. وفلسطين كانت وستبقى مرآة هذا المبدأ الغائب.
