شحانة زكريا يكتب : شنغهاي إلى بريكس.. ممرات تعيد رسم ملامح الغد

3

في عالم تتسارع فيه التحولات وتتبدل خرائط النفوذ لم يعد السؤال: من يقود؟ بقدر ما صار: كيف يُدار العالم؟. لم تعد الجغرافيا السياسية حكرا على عواصم الغرب ولم يعد مركز القرار ثابتا في يد قطب واحد، بل تتوالى المؤشرات على أن الجنوب العالمي قرر أن يكتب فصله الجديد بأدوات عملية تتجاوز الخطابات والشعارات.

قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي اختُتمت في تيانجين مؤخرا لم تكن مجرد لقاء بروتوكولي بين قادة الهند وروسيا والصين؛ بل لحظة رمزية جسّدت انتقال المنظمة من كونها ترتيبات أمنية حدودية إلى منصة تناقش بنوكا إنمائية وتسويات مالية بديلة وممرات طاقة خضراء. وحين يقترح فلاديمير بوتين إصدار سندات مشتركة داخل إطار المنظمة أو حين تُطرح فكرة توسيع استخدام الرنمينبي في تجارة الطاقة فهذا ليس نقاشا تقنيا باردا بل إعلان واضح عن ميلاد اقتصاد سياسي جديد يُحصّن التكتل من سلاح العقوبات ويمنحه استقلالية القرار.

المشهد نفسه تكرّر لكن بصيغة أوسع مع توسع مجموعة بريكس. فمن ناد رمزي محدود تحولت الكتلة إلى بنية مؤسسية ذات أدوات ملموسة. دخول اقتصادات عربية وإفريقية كبرى فتح الباب أمام تنويع جغرافي ومصالح متشابكة فيما صعد بنك التنمية الجديد (NDB) ليصبح رافعة تمويلية جادة لا سيما مع إطلاقه أدوات ضمان استثمارية تقلل كلفة التمويل وتفتح المجال أمام القطاع الخاص. الأخطر – أو لنقل الأهم – أن البنك بدأ بالفعل التحرك نحو الإقراض بالعملات المحلية وهي خطوة عملية لتقليص التبعية للدولار وللحد من أثر العقوبات.

لسنا أمام حلم أيديولوجي عن عالم بلا دولار بقدر ما نحن أمام تراكم تدريجي يغيّر قواعد اللعبة: صفقات ثنائية تسويات محلية، جسور لوجستية، وأدوات تمويل بديلة. هذه الممرات الاقتصادية وإن بدت صغيرة متفرقة فإنها تشكل شبكة متينة تعيد رسم مسار العولمة وتحوّلها من طريق أحادي الاتجاه إلى طرق متوازية ومتقاطعة تضمن لكل طرف مساحة مناورة أوسع.

الخطأ الذي تقع فيه واشنطن أنها تتعامل مع هذه التحولات كـانحراف مؤقت قابل للتصحيح بتعريفات جمركية أو ضغوط سياسية بينما الحقيقة أن ما يحدث أعمق بكثير. فحين تُعاقب الولايات المتحدة الهند تجاريا وهي التي تراهن عليها كحائط صد أمام الصين فإنها تدفع نيودلهي إلى تعزيز تجارتها مع موسكو وبكين. وحين تُكثف واشنطن استخدام “السلاح المالي” خارج مجلس الأمن فإنها تدفع العواصم الأخرى بوعي دفاعي إلى بناء منصات موازية تقلّل من التعرّض للقرار الأمريكي.

هل يعني ذلك انهيار الولايات المتحدة؟ بالتأكيد لا. لكنه يعني أن كلفة العصيان على قراراتها لم تعد كما كانت وأن قدرتها على فرض إرادتها منفردة تتآكل تدريجيا. فحين تتسع أسواق التمويل البديلة وتظهر قنوات تسوية خارج نيويورك وبروكسل تصبح موازين القوة أكثر تعقيدا وأقل مركزية. إنها بداية الانتقال من النظام المركز–الأطراف إلى شبكات المصالح ومن أحادية القطبية إلى تعددية متداخلة تدار بمعايير جديدة.

لكن وللأمانة لا يزال الطريق طويلا أمام الجنوب. فالطموحات الكبيرة تصطدم بواقع الأسواق بعمق السيولة وبقدرة البنوك المركزية على امتصاص الصدمات. لذلك يتقدّم المشهد عبر خطوات محسوبة: أولا توسيع التسويات الثنائية بالعملات المحلية في قطاعات محددة ثانيا بناء صناديق ضمان تقلل من كلفة المخاطرة وثالثا تعميق أسواق السندات وربطها بجسور مقايضة مع البنوك الكبرى. بهذا تتحول الشعارات إلى سياسات عامة قابلة للقياس.

الأكيد أن العرب والأفارقة ليسوا بعيدين عن هذه اللحظة. بل ربما تكون مصلحتهم في أن يتعاملوا مع “بريكس” و”شنغهاي” ليس كمنصات أيديولوجية بل كبنية تمويلية وفرصة تنموية تعزز من خياراتهم التفاوضية مع الغرب. إنها معادلة ذكية: لا عداء مجاني ولا تبعية مجانية بل توسيع قاعدة الخيارات وبناء قدرة تفاوضية أعلى.

من شنغهاي إلى بريكس ليس الحديث عن تجمعات عابرة بل عن ممرات تعيد رسم ملامح الغد. من يستوعب هذه الحقيقة مبكرا سيجد نفسه جزءا من المستقبل ومن ينكرها سيبقى عالقا في خرائط الأمس.