شرق أوسط على شحاتة زكريا يكتب: الفجر الجديد… من سيعيد رسم الخارطة؟

4

في ظلال القصف المتبادل بين طهران وتل أبيب وقفنا أمام حقيقة لا مفر منها: أن مرحلة الصراع تحتَ الطاولة انتهت وبدأت حقبة جديدة من الانكشاف والاقتتال المباشر. المواجهة الحالية لم تعد لحظة عابرة في مسلسل الحروب بالوكالة بل هي اختبار صلابة الإقليم بأسره وخطوة أولى في إعادة ترتيب الأولويات الاستراتيجية.

حين قصفت إسرائيل منشآت حيوية داخل الأراضي الإيرانية، لم تكن الرسالة بالمعنى التقليدي صاعقة إقليمية فحسب بل كانت دعوة لفضح جميع ملفات الخلل. الإعلانات الرسمية عن نجاح الضربة ، والاستعراض الإعلامي لصور الدمار لم يترك مجالا للغموض: الصراع دخل غرفة العمليات المكشوفة ومن دون تخفي.

إيران التي طوّقت حدودها بالنيران من خلال أذرعها في لبنان وسوريا واليمن ، وجدت نفسها هذه المرّة تواجه الآلة العسكرية الإسرائيلية مباشرة في عمقها. وهنا نقطة التحول: لم يعد بإمكانها الاكتفاء بردود الفعل المضبوطة ولا مجددا السير بروتين مستعار في “جبهات الوكالة”. عليها أن تختار بين اثنتين: مواجهة مكتملة الأركان تفرض مصالحها أو اعتراف ضمني بفقدان دور الحارس الإقليمي.

على الجانب الآخر تخوض إسرائيل هذه المعركة في وقت يشهد انقسامات داخلية واسعة من تصويت الكنيست إلى تراجع الثقة بين الجمهور وقيادته. وعندما تقرر تل أبيب خوض مواجهة طويلة النفس فهي تراهن على رصيد العمران الاقتصادي والتفوق التكنولوجي لكنها تخاطر بفتح جبهة داخلية متوترة أصلا.

في خضم هذه المعركة المفتوحة يبرز سؤالان محوريان: الأول عن مصير غزة التي باتت كأنها تسبح بلا شراع في بحار الصراع والقوى الكبرى تدير ظهرها لها. والثاني عن الرد الإقليمي الأوسع إذ إن أي تصعيد في مياه الخليج أو في شواطئ البحر الأحمر قد يجعل المصالح النفطية والطاقة العالمية رهينة للخلاف الحاد.

بقاء المناخ الإقليمي مشتعلا بهذا الحجم لا يخدم أحدا لا النظام الإيراني الذي يلى لحظاتٍ سيحاسب فيها العمود الفقري للقيادة ولا إسرائيل التي لا تستطيع أن تدير أكثر من جبهة في آن واحد دون أن تنهكه الإنهاك العسكري والاقتصادي معا.

ولعل أكثر ما يستدعي القلق هو لعب القوى الكبرى دور المُشاهد أكثر من دور المُطفيء. التصريحات الملتبسة من واشنطن وموسكو وبكين تؤكد أن كل لاعب يحافظ لنفسه على هامش مناورة أكبر ، بينما المنطقة تدفع ثمن الخلاف على الصراع المحلي.

لكن المنطق يحتم علينا أن نخرج من لعبة التصعيد إلى لعبة الحلول المؤقتة. مسار التهدئة أولا هو استراتيجية النجاة فتبديل الخراب بضمانات دولية – ولو هشّة – يمنح الجميع فسحة للتفكير في خارطة طريق جديدة. بعد ذلك يمكن التفكير في آليات أمنية مشتركة ربما بإشراف دولي عربي لنسج ثقة مفقودة منذ عقود

أما الخيار الأخير وهو استمرار المواجهة الناعمة والمسلحة فسينتج إقليمًا مبعثر القوى مكسور الإرادة وفتح باب التدخلات الخارجية في كل شاردة وواردة. وهذا سيناريو لا تخدم فيه مصالح أحد ، سوى تجار الحرب ومروّجي العداوات الأبدية.

في النهاية يبقى على قادة المنطقة – ومن ورائهم الشعوب المتعطشة للاستقرار – أن يدركوا أن النار لا تخمد تلقائيا وأن استمرار الانفجار سيجعل من هذا العصر أكثر عتمة لا أكثر وضوحا.
من سيكتب النهاية؟* الجواب يتوقف اليوم على مدى رهاننا على الحوار كخيار إنقاذ وعلى قدرتنا على تفعيل الوساطة العربية المستقلة وعلى شجاعة الحكومات في كسر دائرة الانتقام وتفضيل لغة المصالح المشتركة على لعبة الصواريخ والتهديدات.

إذا لم نُمسك بزمام المبادرة فلن تكون النهاية إلا أشد مرارةً، ولن تكتب إلا بإلحاح الرصاص وخشخشة الدبابات فوق رمال هذا الإقليم المثقل بالآلام.