عبد الفتاح طلبة حجازي يكتب: إنها الأولى أبدا .. تاريخا وثقافة وعراقة
لابد، ولا مفر، من أن تقشعر كل خلية في جسدك،
وأنت تشاهد رئيس الجمهورية، في القرن الحادي والعشرين
يقف منفردًا في استقبال مومياوات ملوك مصر عبر ألاف السنين
و كأنهم في لقاء يعبر عن كفاحهم و جهدهم و حضارة مصر عبر العصور حيث تسلم كل منهم الأمانة ممن سبقه و حرص علي أن يسلمها لمن بعده و راياتها مرفوعة.
المومياوات دي في جوهرها وحقيقتها، ما هي إلا جثث لأبطال، ماتوا دفاعًا عن هذه الأرض .. في زمن ما.. في عصر ما.. حملوا
سلاح عصرهم.. قاتلوا.. نهضوا.. ثم سقطوا.. ثم نهضوا ثانية، ليفوزوا بكل شيء، حتى باحترامنا وتقديرنا.. وبتحية عسكرية واجبة.. من كل من حمل السلاح يومًا او وضع البزة العسكرية.. رغم مرور آلاف السنين.
إذا كنت مصري، فأنت جندي في جيش كبير، من مائة مليون جندي أو يزيدون كتب الله عليهم أن يدافعوا عن الحق و السلام و
النماء و يحملوا الضياء لمن حولهم، وإذا كنت أمازيغي، فلابد أن شيء ما في ثنايا عقلك ووجدانك الجمعي، يذكر جيدًا.. من زوّد
“هانيبال القرطاجي” بالدروع المعدنية اللازمة للأفيال، وهو يزحف نحو روما، في حملة عسكرية رهيبة، لا يعرف أحد كيف تمت ولا كيف نجحت، حتى لحظة كتابة هذه السطور.
لو كنت خليجي تضع الغترة والعقال.. فلابد أنك تذكر الأم العظمى، أم اسماعيل، السيدة “هاجر” المصرية.. أم أبو العرب، والتي
جاء من نسلها خاتم النبيين بلسان عربي مبين، عليهم جميعًا خير الصلاة وأزكى السلام.
لو كنت أوروبي.. فلابد أنك تتذكر خطر المغول، ذلك الخطر الذي انتهى هنا.. فوق تراب هذه الأرض.
لابد أنك تذكر البتول “مريم” العذراء خير نساء العالمين إذ جاءت مع المسيح عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام، لتحتمي بهذه
الأرض. ولابد أنك تدرك جيدًا أن من هنا خرجت “آسيا” ابنة الجنوب، لتقف في وجه فرعون الهكسوسي المحتل، رغم كونها في مخدعه.
إنها الأرض التي تمطى فيها “ذو الشراع المصري Spinosaurus aegyptiacus” أضخم وحوش الدنيا وأكثرها عنفوانًا وشراسة،
وهو ينفض الماء عن عنقه، الأرض التي سبكت أول سبيكة من الحديد، وصنعت سيفًا من الفولاذ، وقلادة من الذهب، وعرش من
الفضة الخالصة، وروضت الخيول، وامتطت الأمواج لتفصح عن أول أسطول في التاريخ. إنها تلك الأرض التي ستسمع اسمها كلما
ذكرت جملة “أول مرة في التاريخ”.
إنها الأرض التي نشأ فيها أول جيش، وولدت فيها اول دولة، وبني فيها أول معمار مهيب على شكل هرمي، في دقة مبهرة مذهلة، على نحو تعجز عنه أية علوم، باستثناء علوم تلك الحضارة التي صنعته.
الأرض التي ولدت فيها الكتابة وأول ورق، وعزفت اول نغمات موسيقية، وقتما كان بقية العالم يتصارع على ثمرة بالناب
والمخلب.
إنها تلك الأرض التي تشكل واديًا مفتوحًا من كل الجهات، طمع فيه الجميع، ويمكنك بأية جيش صغير أن تغزوه.. لكن تلك لم
تكن المشكلة قط.. المشكلة هي ما يحدث للمعتدي بعد الغزو.
إنها الأرض التي هاجر منها من “منف” إلى شبه الجزيرة رجال أشداء، ليشكلوا قبيلة “بنو عبد مناف”.. فتظهر قريش إلى
الوجود. إنها الأرض حيث كتبت أول لغة وطبعت أول حروف وصكت أول عملة وتعلم منها البشر كيفية البناء، تعلموا كيفية
السقوط.. وكيفية النهوض.. وأنه لا استسلام ولا قعود، وأنه حتى بعد الموت، توجد حياة.. تعلموا معنى الانتصار، حتي لو ذاقوا
مرات مرارة الهزيمة ينظمون صفوفهم و يستردون الانتصار الذي يؤمنون أنه حقهم و حق بلدهم … انتصارا قائما علي العدل … انتصارا يعلي راية الحق .
إنها تلك الأرض التي ترعرع في واديها “أحمس” و”رمسيس” و”تحتمس” و”حسن رأس الغول” و”على الزئبق” و”الظاهر بيبرس”
و”سيف الدين قطز” و”طومان باي”.. إمام الأبطال المهزومين في كل زمن وكل عصر.. ذلك الرجل الذي انهزم حيًا.. وانتصر أيما نصر، ميتًا.
إنها تلك الأرض التي ولد وتربى فوق ترابها ذلك الرجل الذي قاد جيش مصر، من نصر إلى نصر، ولم يهزم هزيمة واحدة عبر
تاريخه، واختار أن يدفن فيها.. فسلام عليها وعلى “إبراهيم”.
سلام علي نبي الله يوسف من جعله الله علي خزائن الأرض في مصر فعم الرخاء فيها و قضي علي مجاعة ضربت جيرانها.
إنها تلك الأرض التي عرف قومها الإله وبنوا له آلاف المعابد والمسلات التي تشير كأصابع توحيد إلى السماء قبل أن يعرفه أحد.
هلا أنصت لها فتحكي عن ماضيها؟ هل أتاك حديث موسى؟ هل أتاك حديث الجنود؟ وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب؟
وهل أتاك حديث أكثر رجال الوجود ملاحة، يا صاحبي السجن.. أأرباب متفرقون خير ام الله الواحد القهار؟
هلا تنصت فتسمع حدوات خيول جيش الإسكندر، العاديات ضبحًا، والموريات قدحًا، والمغيرات صبحًا؟
هلا تنصت فتدرك إننا جند في قيادة رجل، دون أن يطلق رصاصة واحدة، سار على نهج الأبطال القدامى، عمل علي النهوض
بمصر و قاد جيشها المدني و العسكري، من نصر إلى نصر؟
تحية لي، ولك.. ولهم و لأهل مصر الي يوم الدين.
تحية لملوك مصر العظام .. ولحماة الأرض، ولقادة الجند.. وللجند، وللجد، و للابن وللحفيد.