على حافة الأسئلة الكبرى… ماذا يريد الشرق الأوسط من الغد؟.. بقلم: شحاته زكريا

2

يقف الشرق الأوسط اليوم على حافة لحظة تاريخية نادرة لحظة تتقاطع فيها التحولات الدولية مع تغيرات داخلية عميقة.، ليتحوّل السؤال من مجرد بحث عن حلول للأزمات المتراكمة إلى سؤال أبعد وأعمق: ماذا نريد من الغد؟ وكيف يمكن للمنطقة التي كانت عنوانًا للصراع أن تتحول إلى مساحة تصنع مستقبلها لا أن يُصنع لها؟ إن الشرق الأوسط بكل ثقله الجغرافي والبشري والسياسي لم يعد قادرا على إدارة الغد بأدوات الأمس ولا يمكنه الاستمرار في الدوران داخل الدوائر القديمة. التغيرات العالمية تفرض عليه أن يعيد النظر في مفهوم القوة وفي معنى الأمن وفي طبيعة الدولة وفي علاقة الإنسان بوطنه لأن المستقبل لن يُبنى على الضباب بل على رؤية واضحة تجيب عن الأسئلة الكبرى التي طال تجاهلها.

لقد أدركت شعوب المنطقة أن الأمن لم يعد محصورا في الجيوش والحدود بل أصبح أمنا يشمل حياة الفرد اليومية وفرص عمله، وتعليمه، وصحته، وقدرته على أن يعيش بلا خوف من غد مجهول. الأمن الحقيقي اليوم هو الأمن الذي يطمئن المواطن لا الذي يخيفه ويمنح المجتمع القدرة على الاستمرار لا على الاحتمال ويبني استقرارا يفتح الباب لا يُغلقه. فالدول التي تركز على الإنسان أولا هي وحدها القادرة على صناعة استقرار طويل المدى أما تلك التي تكتفي بحلول السطح فلن تكسب سوى وقت قصير قبل أن تعود الأزمات من جديد.

وفي قلب هذه الأسئلة يقف الاقتصاد كعامل حاسم. فالمنطقة التي طال اعتمادها على موارد الريع باتت أمام واقع جديد لا يسمح بالبقاء داخل نمط واحد من الإنتاج. العالم يتغير بسرعة والاقتصاد العالمي لم يعد يتحرك وفق قواعد القرن الماضي. الشرق الأوسط يريد اقتصادا لا يعيش على ما في باطن الأرض بل على ما في عقول أبنائه. يريد اقتصادا يقود الابتكار ويخلق الفرص ويُنتج قيمة حقيقية. يريد بيئة تستقبل المستثمر لا تطرده وتفتح المجال للشباب كي يكونوا جزءا من صناعة القوة الاقتصادية لا مجرد متفرجين ينتظرون وظائف تأتي أو لا تأتي. فبدون اقتصاد مُتنوع وقادر على المنافسة لن يكون هناك غد مُختلف ولن تستطيع المنطقة أن تنتقل من خانة التبعية إلى خانة الفاعلية.

وبين كل هذه التحولات تبقى الهوية إحدى القضايا الأكثر حساسية وتأثيرا. فالأجيال الجديدة في الشرق الأوسط لم تعد تريد هوية مقفلة على الماضي ولا تريد خطابا يزرع الانقسام أو يعيد إنتاج الكراهية. هذه الأجيال – الأكثر تعليما والأكثر اتصالا بالعالم – تسعى إلى هوية تستند إلى جذورها العميقة دون أن تتقيد بقيود ضيقة. تريد شرقا يحترم التنوع ويُعيد اكتشاف نفسه كمنطقة للحضارة لا للخلاف. إنهم يريدون هوية قادرة على أن تكون جسرا للانطلاق لا جدارا للانعزال وهذه الرغبة المتجددة هي التي يمكن أن تنقل المنطقة من إرث الصراع إلى أفق السلام.

كما أن المنطقة بحاجة إلى إعادة تعريف دور الدولة ليس بوصفها سلطة عليا فقط ، بل بوصفها مؤسسة لخدمة المواطن. الناس اليوم يريدون دولة حديثة وشفافة دولة قادرة على اتخاذ القرار دون أن تتعثر في البيروقراطية وعلى توفير الخدمات دون أن تغرق في التعقيدات. يريدون دولة تستثمر في التكنولوجيا وتستخدم البيانات وتبني الثقة القائمة على الوضوح لا على الوعود. فالدولة التي تركز على خدمة مواطنيها هي وحدها التي تستطيع أن تجمعهم خلف مشروع وطني حقيقي ، وتمنحهم شعور الانتماء الذي لا يُشرى ولا يُفرض.

ورغم كل الأزمات التي مرت بها المنطقة فإن الشرق الأوسط لا يزال يبحث عن السلام ، لكن السلام الذي يُعيد للناس حياتهم لا الذي يُكتب في الأوراق وينتهي عند حدود المفاوضات. السلام هنا ليس مجرد اتفاق سياسي بل مشروع إنساني يحرر المجتمعات من الخوف ويمنح الأجيال فرصة كي تعيش حياة طبيعية لا حياة مؤجلة. سلام يفتح المدارس بدل أن يغلقها ويحمي البيوت بدل أن يهدمها ويعيد للإنسان ثقته بأن الغد يمكن أن يكون أفضل.

وفي عالم يتحرك بالتكنولوجيا لم يعد الشرق الأوسط قادرا على البقاء خارج المشهد الرقمي. الشباب في المنطقة يمتلكون أدوات غير مسبوقة ولديهم القدرة على التأثير وصناعة محتوى وتغيير وعي. السؤال الحقيقي لم يعد: كيف نتحصن من التكنولوجيا؟ بل: كيف نحولها إلى قوة تُبنى عليها اقتصادات وصناعات وفرص جديدة؟ المنطقة تحتاج إلى أن تكون شريكا في صناعة التكنولوجيا لا مجرد مستهلك لها، وأن تستثمر في العقول قبل البنى التحتية لأن المستقبل سيكتبه المبدعون لا المقلدون.

وفي النهاية ربما يكون السؤال الأكبر: ماذا يريد الشرق الأوسط؟ إنه يريد غدا لا يشبه الأمس. يريد أن يمتلك زمام مصيره وأن يصنع روايته بيده، وأن يخرج من دوائر الصراع إلى دوائر البناء. يريد أن يكون إنسانه هو البداية وقيمه هي البوصلة ومشاريعه هي الطريق نحو مستقبل يليق بتاريخ المنطقة وحجم إمكاناتها. وعلى حافة هذه الأسئلة الكبرى يبقى يقين واحد: الشرق الأوسط يستطيع أن ينهض… متى قرر أن يجعل الإنسان أولا وأن يكتب الغد بإرادة لا تهتز وثقة لا تُكسر.