فلسفة التخلي للكاتبة: قوت الشمري

2

في عمق كل علاقة إنسانية تكمن معادلة خفية، مزيج من الأمل والخوف، الحضور والغياب، الأخذ والعطاء. ولكن في اللحظة التي يتحول فيها هذا التوازن الهش إلى كفة واحدة، نجد أنفسنا أمام أعقد أسئلة الوجود الإنساني: لماذا يتخلى الإنسان؟ كيف لنفس بشرية أن تختار الرحيل، وأن تُقصي الآخر وكأنه لم يكن؟ وكيف لتجربة حقيقية بين شخصين أن تُمحى بسهولة تجعل التخلي يبدو وكأنه جزء من الطبيعة البشرية؟
عندما نتأمل في طبيعة النفس البشرية، نجد أن التخلي ليس فعلًا عشوائيًا أو نزوة آنية، بل هو نتيجة لصراع دائم بين الرغبة في البقاء والخوف من الثبات. الإنسان كائن يبحث عن المعنى، ولكن هذا البحث غالبًا ما يتناقض مع حاجته للتحرر من كل ما يقيّده، حتى لو كان ما يقيّده حبًا أو علاقة عميقة. هنا يكمن التناقض الفلسفي في النفس البشرية: نحن نبحث عن الاستقرار، ولكننا نهرب منه حين نشعر بثقله. هل التخلي إذًا جبروت؟ أم أنه شكل من أشكال الحرية؟ ربما يكون التخلي أشبه بالهروب من مرآة الذات. في العلاقات العميقة، يرى الإنسان نفسه بوضوح أكثر من أي وقت مضى. أحيانًا تكون هذه الصورة جميلة، وأحيانًا تكون مرعبة. وعندما يعجز المرء عن مواجهة نفسه في مرآة الآخر، فإنه يختار كسرها.
التخلي يبدو وكأنه فعل إرادة حرة، لكنه في كثير من الأحيان قناع يخفي ضعفًا عميقًا. الشخص الذي يتخلى دون تفسير أو مواجهة يتجنب أسئلة الحياة الكبرى: لماذا انتهت هذه العلاقة؟ ما الخطأ الذي ارتكبته؟ هل أنا ضعيف أم الآخر هو من أخطأ؟ هؤلاء الذين يتخلون يعتقدون أنهم يمتلكون القوة، لكنهم في الحقيقة يعانون من هشاشة داخلية تجعلهم غير قادرين على البقاء. إنهم يهربون، وليس لديهم الشجاعة لتحمل وزن العلاقة، لذلك يختارون الحل الأبسط: الاختفاء.
هنا، ينتقل السؤال إلى الطرف الآخر: كيف نواجه جبروت النفس البشرية حين يقرر أحدهم أن يلغي وجودنا؟ كيف نتعامل مع ألم الإقصاء والتهميش؟ الفلاسفة الوجوديون مثل سارتر وكامو رأوا أن الإنسان لا يستطيع الهروب من العبث، ولكن يمكنه أن يصنع معنى جديدًا من داخله. في مواجهة التخلي، يجب أن ندرك أن الوجود الإنساني ليس خطًا مستقيمًا. نحن نعيش في دوائر، نقترب من البعض، نبتعد عن البعض، ونفقد أحيانًا. لكن فقدان شخص ما لا يعني فقدان ذواتنا. إذا كان التخلي اختيارًا يعكس ضعف الآخر، فإن البقاء والاستمرار يعكس قوة الذات.
هل يمكن للإنسان أن يتحرر من هذا الجبروت؟ الجواب يعتمد على مدى استعداده لمواجهة نفسه. التخلي ليس فعلًا نهائيًا، بل هو درس. إنه اختبار لما إذا كنا قادرين على البقاء صادقين مع ذواتنا، على أن نكون أقوياء بما يكفي لنعترف بأخطائنا وضعفنا، بدلًا من التستر عليها تحت قناع الجبروت.
في النهاية، التخلي يعكس أكثر مما يخفي. إنه يفضح هشاشة النفس البشرية، ضعفها، خوفها من المواجهة. لكنه في الوقت ذاته درس عميق للآخر: أن الإنسان قوي بما يكفي ليعيش الفقد ويتجاوزه، أن القوة الحقيقية تكمن في مواجهة الألم، لا في الهروب منه. عندما يتخلى أحدهم عنك، لا تبحث عن تفسير، بل انظر إلى داخلك. لعل الألم الذي يتركه خلفه يصبح حجر الأساس لنفس أكثر وعيًا، لنفس تفهم أن جبروت التخلي ليس إلا قناعًا هشًا أمام قوة البقاء.