فيروز يا ست الدنيا .. بقلم الأديب والشاعر زكريا حيدر

17

في زاوية ما من الزمن، هناك صوت لا يُشبه الأصوات، بل يُشبه الذاكرة حين تُمسك بأنفاسها خاشعة. صوتٌ يسيل كضوء الفجر على شُرفات القلب، يُحاكي الحنين في أكثر تجلياته صدقًا، ويكتب في أرواحنا رسائل لا يقدر القلم على رسم حروفها. ذلك هو صوت السيّدة فيروز، الصوت الذي لا يُمكن أن يُفَسَّر، بل يُعاش.

في إحدى المرات، كنتُ مستغرقًا في غيمة أغنيةٍ لفيروز، متأمّلًا المعاني التي تُطرّزها بصوتها الغابر في الأبدية. كانت الكلمات تتوالى عليّ كأنها أسرارٌ كونية تنسكب في داخلي:
شو بْيِبْقَى من المَلَاهِي
مِن رَصيف القَمَرْ
من الناس اللّي حبّوا
من اللَّوْعَة من الضَّجَرْ
شو بْيِبْقَى من البَحْر
من الصيف من الْـ مَضَى
من الحزْن من الرِّضَى
شو بْيِبْقَى شو بْيِبْقَى
شو بْيِبْقَى يا حبيبي
بْيِبْقَى قصص زغيرٍةْ
عم بتشَرِّدْها الريح
توقفتُ عند هذا المقطع كما يتوقف العابر فجأة عند أطلالٍ مأهولة بالشوق. التفتُّ إلى رفيقي وقلت: “اسمع، أنصت! هل تُدرك كم من المعاني تُخبّئه هذه الأسطر؟”
فأجابني، بنبرةٍ باردة، كأنّه يفضّ سرًّا عرفه منذ البدء: “الكلمات يا صديقي عادية، السحر في صوت فيروز.”
صمتّ، اندهشت ثمّ آمنت، إنّه كلّ شيء، صوت فيروز هو الدلالة والعمق وهو السحر ليس إلّا.
هزّتني تلك العبارة، لا لصراحتها فحسب، بل لما كشفت لي من حقيقةٍ ظللت أتغافل عنها لسنين. أجل، لقد كان على حق. الكلمات التي تنطقها فيروز، مهما عظُمت، تكتسب معناها الحقيقي من عبور صوتها عبرها. فيروز لا تُغنّي، بل تُحوّل اللغة إلى كيانٍ حيّ. من دون صوتها، تنسلخ الجملة من جلدها وتُصبح لفظًا عاديًا، لا يوقظ الحنين، ولا يُبكي صمت الأرواح.

فيروز ليست مغنية وحسب. هي ظاهرة، هي زمنٌ موازٍ، هي لحظة نادرة يتصالح فيها الصوت مع المعنى، والموسيقى مع الصمت، والسماء مع الأرض. من منّا لم يسمعها في فجرٍ خريفي، فشعر أنّ الضوء يتسلّل من صوتها قبل أن يتسلّل من النافذة؟ من منّا لم يُداوِ جراحه بترتيلها البعيد: “رجعت الشتوية والصبيّة ع المراية عم بتجلى”، وكأنّها تُكمل طقسًا قديمًا من الحنين؟

إنّ صوت فيروز لا يُشبه أحدًا، لا قبلها ولا بعدها. هو صوتٌ لا يتكئ على المهارة بل على النعمة، لا على الأداء بل على النور. فيروز تُشبه الأشجار حين تغنّي، البحر حين يصمت، الغيم حين ينوح على رؤوس الجبال. صوتها لا يُحاصر في مقامٍ موسيقي ولا يُحبس في تصنيفٍ فني. هو صوتٌ من طبقة النور، يصعد ولا يهبط، يحلّق ولا ينكسر.

منذ تلك اللحظة التي قال فيها صديقي كلمته، بتّ أوقن أن كل من يحاول إعادة غناء فيروز، يُعيد ترتيب الحروف فقط، أما الروح فتظل في مكانها، لا تتحرّك. لقد خُلقت أغانيها لتُقال بصوتها وحده، تمامًا كما خُلقت الصلاة لتُتلى بخشوعٍ خاص، لا تقليد فيه.

حين نُصغي لفيروز، لا نُصغي فقط لصوتٍ شجيّ، بل نُصغي لطفولةِ الروح، لذاكرة المدن، لحكايا العشّاق الذين لم يكتملوا. نُصغي لوجدان الشرق، لعطرِ الياسمين في أزقّة بيروت القديمة، لرجعِ الأذان في ليالي الشام، لرجفةِ أوراق الخريف في جبل لبنان. صوتها هو أرشيف القلب العربي، حين كان الحنين يُكتب لا يُصرّف، وكان الحب يُغنّى لا يُفَسَّر.

لكن صوت فيروز لم يكن فقط نشيد الحنين وسرّ الجمال، بل كان وحده يقاوم بشاعة الحرب حين عمّ الخراب، حين تكسّرت المدن على رؤوس ساكنيها، وباتت الذاكرة خائفة من نفسها. حينها، لم يكن في الأفق غير الدخان، وكان صوتها وحده يمرّ بين المتاريس كخيط من نور، لا يهادن طرفًا ولا يُدين، بل يروي الحرب بطريقته الملائكية، كأنّها حدثٌ عابر في حكاية إنسانية أكبر، أرقّ، أعمق.

كانت أغنيتها الخافتة تصل إلى الجندي المنكفئ في خندقه، وإلى الأم التي تنتظر، وإلى الطفل الذي لم يعد يعرف ما إذا كانت السماء زرقاء أو رمادية. كانت كأنّها الخط الواصل بين القنابل والأحلام، خيطًا رفيعًا يربط المصير الأسود بأملٍ مجهول، يرسم للحرب وجهًا بشريًّا لا يعرفه الدم.

فيروز، في لحظات العبث التاريخي، كانت ضحكتنا على الزمان بعبثيته وهرائه، وكانت أحلامنا التي داسها بجنونه وطيشه، لكنّها وحدها – بصوتها – أعادت لأحلامنا جناحين، فحلّقنا بها، ومعها، ومن خلالها، إلى ضوءٍ آخر، لا يعرفه إلا الذين سكنهم هذا الصوت كما يسكن الضوء قلب النافذة.

صوت السيّدة فيروز لا يُحلَّل، لأنه لا ينتمي إلى هذا العالم وحده. هو شيءٌ من العبق، من الغيب، من الوجد الصافي الذي لا يمرّ عبر الكلمات بل عبر الأرواح. قد يُغنّى لفيروز، لكن لا أحد يغنيها. فهي، وحدها، الصوت الذي لا يُعاد، ولا يُكرر، ولا يُقارن.

ذلك هو السحر الحقيقي، الذي لا يُكتَب ولا يُشرَح… فقط يُسمَع، ثم يُؤمن به إلى الأبد.