في تفسير أمواج البحر اللجي والظلمات في القرآن الكريم
في مقال متميز بشبكة الألوكة الثقافية اليوم بعنوان “ظلمات وأمواج البحر اللجي في المثل القرآني”
للدكتور حسني حمدان الدسوقي حمامة ، حول أسرار البحار فى القرآن الكريم يقول :
أ- عظة فى مثلين:
يقول تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوكَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾ [النور: 39 – 40]. مثلان ضربهما الله تعالى للكفار، الأول للكفار الذين يعولون على ثواب أعمالهم فإذا قدموا على الله تعالى وجدوا ثواب أعمالهم محبطة بالكفر؛ أي لم يجدوا شيئا كما لم يجد الباحث عن الماء إلا سرابًا.
وقال ابن كثير أن هذا المثل للكفار الدعاة إلى كفرهم الذين يعتقدون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات، وليسوا في نفس الأمر على شيء. والمثل الثاني لأصحاب الجهل البسيط وهم الأغشام المقلدون لأمة الكفر الذين يتيهون في ظلمات متعددة متراكبة.
وتمثل العبرة من المثلين موعظة للمسلمين بألا يغتروا بأعمال الكفار مهما عظمت لأنها سراب وظلمات تورد صاحبها مورد الهلاك.
ويلاحظ التوافق بين الباطل الذي ورد في سورة الرعد التى أشرنا إلينا من قبل ومثل عمل الكافر الذي ورد في سورة النور، فالزبد هناك يقابله سراب هنا، والخبث فيما يوقد عليه من نحاس وفضة وذهب ابتغاء الحلية والمتاع يقابله هنا ظلمات البحر.
ب: المعالجة العلمية لظلمات البحار:
في المثلين الثابقين، تشير آية سورة النور إلى مفردات علمية دقيقة متعلقة بالسراب، وظلمات البحر، لجية البحر، والأمواج التحتية والفوقية. ويعنينا هنا الإعجاز العلمي المتعلق بالبحار. ونود أولا التأكيد على أن خصائص البحر التي أشارت إليها الآية لم تكن معروفة حتى عهد قريب في القرن العشرين إلا حينما رُسمت خرائط قيعان البحار. وهذا الإخبار من القرآن نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يركب البحر قط، وما كان غواصا يملك ما نملكه من غواصات وأجهزة متقدمة ندرس بها البحار اللجية.
اكتشف العلماء أن البيئات البحرية تتنوع باختلاف عمق الماء (شكل1- 57) وأن عمق نطاق الضوء ( Photics ) يمتد من مستوى سطح البحر حتى عمق 200 متر. وتحت هذا العمق يصبح البحر مظلمًا، ويصل عمق البحر في الأخاديد البحرية إلى ما فوق العشر كيلومترات. ويبدأ البحر الُلجيْ (Oceanic) مع ظلمات البحر تحت عمق 200 متراً (جدول 1-2). ويختلف امتصاص ألوان طيف الضوء باختلاف عمق الماء، فعلى عمق 30 مترا لا يرى اللون الأحمر، وعلى عمق 50 مترا يبدأ امتصاص اللون الأصفر، وعلى عمق 100 متر يمتص اللون الأخضر، وتحت عمق 200 متر يمتص اللون الأزرق. ووصف القرآن لبحر لجي وصف معجز ذودلالتين: الأولى أن كل البحار ليست لجية، والثانية أن مفهوم البحر الُلجيْ لم يتضح إلا في القرن العشرين. والدلالة الأولى لا يعرفها سوى المتخصصين في علم الأرض الذين يعلمون أن البحار نوعان: قارية ضحلة تنشأ على اليابسة وهي بحار قديمة تكاد أن تكون قد اختفت في الزمن الحديث ولا نعرف عنها شيئاً إلا من خلال الجغرافيا القديمة، وبحار لجية تشمل محيطات العالم الموجودة اليوم. أما مفهوم البحر اللجي فلم يتحدد إلا بعد مسح قاع البحر، وحينما أعطى القرآن وصف البحر اللجي منذ أكثر من 1400 سنة، لم يكن يخطر على عقل بشر المفهوم الحقيقي للجية البحر، ولربما كان المفهوم الظاهري للبحر اللجي بأنه البحر العميق جداً. وقد جاء العلم الحديث ليجلي مفهوم البحر اللجي حينما حدد بيئات البحر الحديثة وفقًا لأعماقها حسب الجدول السابق.
ومن المؤكد أن أعظم صائد لؤلؤ في العالم قبل نزول القرآن وبعد نزوله بأكثر من ألف عام، لم يكن بمقدوره الغوص إلا لعشرين أوثلاثين متراً على أكثر تقدير. والوصف القرآني لبحر لجي ذي أمواج متراكبة، وظلمات متراكبة لا يمكن أن يأتي سوى من خالق ذلك البحر، خاصة إذا علمنا أنه منذ 75 سنة فقط كان علم الناس عن خرائط القمر أكثر من علمهم بتفاصيل قاع البحر. ولا يمكن لمدعٍ أن يزعم أن البشر عند نزول القرآن كانوا على درجة من العلم تؤهلهم بمعرفة البحر اللجي وظلماته وأمواجه التحتية. ولم يستطع العلماء أن يرسموا خرائط قيعان البحار إلا بعد أن توفرت لديهم الإمكانيات الحديثة من سفن وغواصات الأبحاث، وطرق الاستكشاف عن بعد من مجسات صوتية ( Echo Sounders ) ومقاطع زلزالية ( Seismi Profiles ) وغيرها من وسائل التقنية الحديثة التي تستخدم الجهاز الآلي (الريبوت) الغطاس، وكاميرات الليزر ( Leaser Imagers ).
وتأتي إشارة القرآن إلى وجود أمواج تحتية في البحر اللجي في وقت لم يكن ذلك معروفا، بل مر أكثر من ألف سنة عن الإشارة القرآنية حتى كشف العلم عن سرها الذى ورد في قوله ” أوكظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب… ” واكتشف العلم تيارات بحرية عاتية في قيعان البحر تسمى تيارات العواصف ( Turbidity Currents ) تبلغ سرعتها في أغوار البحار أكثر من 100 كم في الساعة، وتغطي مسافة 700 كم، وتتولد عنها موجات تحتية عاتية قد تقتلع أجزاء من قاع البحر. وتنشأ تلك التيارات حينما تنزلق الرواسب الرطبة المفككة المستقرة على الرصيف القاري ( جانب البر ) والمنحدر، ويحدث اندفاع تلك الرواسب من مكانها إلى أسفل في صورة سيول لزجة فتسبب دوامات شديدة. وينتج عن التيارات البحرية العميقة أمواج تتراوح أطوالها بين عشرات ومئات الكيلومترات. ويصل ارتفاع الموجات الداخلية إلى 200 متر. وتلك الأمواج لا يمكن رؤيتها مباشرة، بل تدرك بعدد من القياسات تحدد الاضطرابات التي تحدثها تلك الأمواج.
ترى لماذا أخبر محمد عن طريق الوحي الأمين بتلك الأسرار التي يزخر بها البحر؟ الجواب: حتى لا ينخدع الكفار بأعمالهم التي لم تكن ابتغاء وجه الله، فأعمالهم كسراب بقيعة، وكظلمات في بحر لجي. أما وقد تيقنوا من حقيقة لجية البحر، وظلماته، وتراكب أمواجه، فليعلموا أن أعمالهم سيجعلها الله هباءً منثورًا حينما يقفون أمامه سبحانه للحساب على ما قدموا.. يقول تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ﴾ [الفرقان: 23].