لمى أبو النجا تكتب : قصة: الباص الأخير
في طريق ذهابي للعمل اليوم وقفت بالإشارة و إلتفت على يميني و رأيت باص من شركة النقل التي كانت تقلني للجامعة قبل خمسة عشر عاما تفاجأت من صموده في وجه كل هذا التغيير العاصف في الزمن، في الناس و في الذاكرة، أعادني ذلك إلى حادثة غريبة:
في ذلك اليوم، بدا المشهد عادياً جداً: باص الجامعة المتأخر كعادته، الطالبات المتكدسات في المقاعد، والوجوه المتعبة من المحاضرات التي استنزفت كل ذرة من الطاقة. لم أكن أتوقع أن يتحول سائق الباص — ذاك الرجل الهامشي الذي بالكاد يعلق بالذاكرة — إلى مركز الحكاية.
في نهاية كل شهر كنا نصرف رسوم النقل و نسلمها لسائق الباص صباحاً و بالعادة يسجل المدفوعات بورقة، استمر الوضع على ماهو عليه لسنوات ، و كجميع البنات من جيلي لم يكن الحذر حاضراً في تعاملاتنا الإنسانية لا أعلم كيف نجونا من مصائب محتملة “بالبركة و بدعاء الوالدين” لم نشعر بالخطر، لم تراودنا اي فكرة أن هنالك شيئا ما لايبدو صحيحاً، جمع النقود من أربع مئة طالبة. أربعون ألف ريال في كيسٍ واحد، ثم تبخر كما لو أن الباص ابتلعه في جوفه. لم يختفِ فقط، بل اتصل بي أنا بالذات قبل هروبه. صوته المرتجف كان يبكي:
“لمى.. سامحيني. أنا مضطر.. بس سامحيني.”
كنت خارجة لتوي من معمل الكيمياء العضوية، الأبخرة الثقيلة تلف رأسي، والواقع من حولي ضبابي. لم أفهم لماذا يكلمني أنا؟ ما الذي يريد اعتذاره مني؟ ولماذا من بين كل تلك البنات اختار أن يخاطبني؟ أغلقت الهاتف ونسيت الأمر للحظة، لكن دوامة الشبهات لاحقاً عصفت بي حين استدعَتني الشركة:
“أنتِ آخر من اتصل بها، هل لك علم بسرقته؟”
في الحقيقة لم تكن تلك المرة الأولى التي تصدر منه تصرفات غريبة كانت نذير شر لكنا لم نعر لتلك الإشارات الواضحة بشكل فاضح أي إهتمام، بدا هذا الرجل وكأنه يصارع في داخله وحش ومنذ مدة طويلة.
فقبيل صفقة النصب والسرقة الكبرى التي قام بها كانت هناك حادثة أخرى، زميلتي طلبت منه أن يوصلها إلى مواقف سوق تجاري خلال ساعات الدوام الرسمي وبينما كانت منشغله بالرسائل الرومنسية و وضع المكياج غير مدركة أن موعدها الغرامي سوف يتحول بعد دقائق قليلة إلى موعد مع القدر. كان الباص و السائق قد انحرفا إلى الهاوية، فجأة غاب صوت المدينة، وحلّت عزلة المكان النائي، فراحت تترجاه بكل ما أوتيت من قوة أن يتركها و شأنها وبعد صراع عنيف بالفعل أطلق سراحها.
ولم يجد سوى دموعه، اتصل بي من جديد، يبكي ويقول:
“أنا آسف.. سامحيني.” لم أعلم وقتها أسامحه على ماذا حتى اليوم التالي عندما إلتقيت بصديقاتي و أخبروني عن الصباح المروّع، لكني لسبب ما أجهله أخفيت عنهن إتصاله
كنت مجرد طالبة مثلهن، لا أكثر ولا أقل. ولا أدري لمَ كان يربط اعتذاره بي؟ هل كان يرى في وجهي مرآة لصراعه؟ أم كان يطلب غفراناً يعرف أنه لن يجده في أي مكان آخر؟
أحياناً أتساءل: هل كان الرجل يحارب شياطينه الداخلية أم يحاول أن يلقي بذنوبه على كتفي لأحملها عنه؟ كأنه يبحث عن شاهد يصدّق أن الشر لم يكن خالصاً، وأن داخله بقايا ندم.. أو ربما كان يهيئ نفسه ليسقط في هاوية أكبر
لمى ابوالنجا/ كاتبة و أديبة من السعودية
