لمياء ابن احساين تكتب : طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
يعرف عبد الرحمن الكواكبي الاستبداد بأنه انفراد المرء بالرأي وبالسلطة والتصرف في شؤون الناس
كما يشاء بلا خشية حساب ولا عقاب,والاستبداد لا يقوم على القوة وحدها بل على صناعة الخوف
وإخضاع العقول وتحويل الشعوب إلى رعايا يدارون كما يريد الحاكم ,وفي بلاد حكمتها الأنظمة
الشمولية لعقود,يتحول الاستبداد إلى طريقة للحياة وإلى شبكة خفية تستمر حتى بعد سقوط الحاكم
كما لو أن الروح السوداء للنظام تظل معلقة فوق البلاد في شبكات ومراكزقوى تحاول إنتاج نفسها
تحت أسماء جديدة.
وفي سوريا وبعد عام على خروج بشار الأسد من المشهد,تكشف الأحداث المتلاحقة من التسريبات
الأخيرة المنسوبة له مع لونا الشبل إلى خطاب أحمد الشرع أن إٍرث الاستبداد مازال حاضرا وأن
معركة السوريين الحقيقية ماتزال دائرة بين الانفلات من طبائع الاستبداد وتكفيك مصارع الاستعباد
التسريبات كانت تسجيلات لبشار الأسد ولونا الشبل المستشارة الإعلامية السابقة له والتي قتلت
بطريقة غامضة ,ماظهر في التسجيلات تضمن أحاديث عن شبكة النفوذ التي بقيت تعمل في الخفاء
وعن صراعات دامية داخل ما تبقى من الحلقة الضيقة التي حكمت سوريا لعقود.
هذه التسريبات بغض النظر عن صحتها الكاملة تعيد إلى الأذهان طبيعة النظام الذي بناه الأسد,شبكة
تقوم على الولاء العائلي والطائفي وعلى أجهزة أمنية ظلت لعقود تتحكم في تفاصيل حياة السوريين
لكن الأخطر في هذه التسريبات ليس مجرد ما تكشفه من صراعات داخلية ,بل ما تحمله من نظرة
بشار الأسد نفسه للسوريين فالاستهزاء الواضح بالناس والسخرية من معاناتهم ومن أوضاع البلاد
التي دمرها,يظهر بجلاء أن الرجل لم يكن يعنيه لا سوريا ولا السوريين,بل كان يرى نفسه فوقهم
جميعا,اللغة المتعالية التي وردت في التسريبات تؤكد أن النظام الذي حكم سوريا لم يكن يتعامل مع
الشعب كشركاء في الوطن بل ككائنات يمكن السخرية منهم والتلاعب بمصائرهم وأن بقاء السلطة
كان أهم من البلاد نفسها.
في هذا المناخ المشحون برز خطاب أحمد الشرع الذي استعاد الذكرى الأولى لسقوط الأسد بنبرة
نقدية واضحة أكد في خطابه أن الأسد خرج من سوريا لكن شبكته لم تخرج بعد في إشارة مباشرة
إلى المحاولات الجارية لإعادة تدوير الإرث الأمني والسياسي القديم تحت غطاء جديد,خطابه بدا
كتحذير من إعادة إنتاج النظام ولو بأسماء مختلفة.
أكثر المفات حساسية في سوريا اليوم صعود فصائل علوية تحاول ملء الفراغ الأمني,هذه التحركات
محاولة لعودة الأسد عبر وكلاء بطريقة رمزية وعبر شبكات الولاء القديم التي مازال جزء منها يتحرك
لكن الظروف تغيرت بشكل يجعل عودته إلى الحكم مستحيلة فلا جيش موحد ولا أجهزة امنية قوية كما
كانت ولا دعم خارجي قادر على إعادة إنتاج حكم الفرد ,والتدخل الإسرائيلي أكبر حاجز أمام إعادة
إنتاج الأسد,فخلال الأيام التي تلت سقوط النظام لعبت إسرائيل دورا مباشرا في المشهد السوري من
خلال ضرب البنية العسكرية لسوريا واستهداف شبكات النفوذ التابعة للنظام السابق,بما في ذلك بعض
الفصائل المرتبطة مباشرة بالأسد,هذه التدخلات أظهرت أن أي محاولات لإعادة إنتاج النظام القديم
ستكون محدودة ومرهونة بالاعتبارات الإقليمية وأن الطوائف المختلفة في سوريا أصبحت واعية أن
مصالحها تتطلب التوازن والابتعاد عن ولاءات فردية, وما يبدو اليوم عودة الأسد هو في الحقيقة
محاولات بقايا النظام لفرض وجودها في فراغ سياسي هش.
بعد عام على خروج الأسد تقف سوريا أمام منعطف كبير إما أن تستمر في تفكيك إرث الاستبداد
وتأسيس دولة جديدة أو تسمح لبقايا النظام بأن تعود عبر طرق ملتوية وتحت غطاء الطائفة والقوة
والسلاح ,لكن المؤكد أن السوريين الذين عاشوا عقدا من الثورة والحرب لم يعودوا كما كانوا وأن
سوريا القادمة مهما طالت الطريق لن تكون سوريا الأسد.
