لمياء ابن احساين تكتب : جعلوني رئيسا ..الشرع وصناعة السلطة

304

في واحدة من أكثر الخطوات الدراماتيكية في المشهد السوري, تأتي رحلة أحمد الشرع المعروف سابقا
بالجولاني هذا إن سلمنا جدلا أنه هوأبو محمد الجولاني,كفاعل سياسي ورئيس تتعامل معه
العواصم الدولية بقدرلايمكن تجاهله.
الرجل الذي صعد من قيادة فصائل مسلحة إلى شخصية تفتح لها قنوات دبلوماسية,يعكس انتقالا
واضحا في طريقة صناعة السلطة داخل سوريا,الرحلة وصفت بأنها الأكثر غموضا منذ اندلاع
الحرب السورية؛وصل الشرع إلى واشنطن في زيارة اتسمت بطابع السرية وبالدخول من الباب
الخلفي للبيت الأبيض, لقطة تعكس طبيعة المرحلة ومقام الرجل لدى الإدارة الأمريكية,في العرف
الدبلوماسي الدخول من البوابة الخلفية يعتبر رمزا لفقدان المكانة أوالاحترام أو لشخص غير ذي
قيمة كبرى,الزيارة جرت في سياق غير معلن رسميا وبعيدة عن البروتكول التقليدي لاستقبال
السياسيين,لا تحمل أي حفاوة لكنها تحمل إشارة بليغة ,الضيف مقبول للتفاوض ولتكملة المهمة
لكنه ليس معترفا به كزعيم دولة أو طرف سيادي كامل,بل كطرف وظيفي قادر على لعب دور
ميداني يخدم مصالح واشنطن دون منحه شرعية كاملة.
تفاهمات تنسج في الظل وحسابات أكبرمن التصريحات العلنية فاللقاء الذي جمعه بدونالد ترامب
لم ينته بمؤتمر صحفي بل بصمت مدوٍ فتح الباب واسعا أمام الأسئلة ماذا جرى؟وما الذي قدمه الشرع؟
ومالذي تريده الولايات المتحدة؟ ورغم غياب أي إعلان رسمي أو خروج إعلامي للرئيسين إلا أن
معطيات دبلوماسية تشير إلى أن الشرع قدم تنازلات سياسية وأمنية مقابل إدماج سوريا في الترتيبات
الإقليمية الجديدة أبرزها ماحملته حقيبته السياسية.
تمثل في قبول غير معلن بإعادة توزيع النفوذ داخل سوريا بحيث تتعامل واشنطن مع البلاد كخارطة من
ثلاث مناطق رئيسية :
شرق الفرات تحت تأثير أمريكي كردي والشمال الغربي بحكم تركي مباشرأوغير مباشر
الوسط والجنوب والمناطق المتبقية تحت سلطة دمشق بدعم روسي.
زيارة من هذا النوع تقرأ ضمن مسار يكرس عمليا شكلا من تقاسم النفوذ داخل سوريا,فالمشهد الحالي
يتيح لقوى محلية مدعومة بدول مختلفة التفاوض نيابة عن مناطقها,كي تفتح الطريق أمام تقسيم ناعم أو
فدرلة قسرية تتوزع فيها السلطة بين قوى الأمر الواقع,فيما تبقى السلطة المركزية شكلية أو مرتهنة
فروسيا التي ترى نفسها الضامن الأول لتوازنات القوى في سوريا نظرت للزيارة على أنها محاولة
أمريكية لكسر الاحتكار الروسي لمسار التسوية ورغم تجنب موسكو التصريحات التصعيدية إلا أن
ردود الفعل غير الرسمية أظهرت قلقا من أي اعتراف دولي محتمل بالشرع ,لما قد يمثله ذلك من تغيير
في قواعد اللعبة التي رسختها التدخلات الروسية منذ 2015
أما طهران فاعتبرت الزيارة رسالة أمريكية واضحة تهدف إلى تضييق هامش النفوذ الإيراني في الشمال
السوري ونظرت إليها على أنها ليست حدثا سياسيا عابرا بل محور صراع جيوسياسي يختبر سلطتها في
مرحلة مابعد الحرب الأخيرة بينها وبين إسرائيل.
وأمام كل ماقدمه الشرع في مقابل رفع العقوبات على سوريا وموافقته على الدخول في الائتلاف الدولي
لمحاربة الإرهاب وهو تحول جذري لرجل صعد من التنظيمات الإرهابية إلى محاربة تنظيم داعش
بالإضافة إلى تعهدات بفتح قنوات أمنية مع واشنطن للحد من نشاط الميليشيات العابرة للحدود, وإعادة
هندسة النفوذ في الشمال السوري بما يضمن مصالح القوى الدولية والإقليمية .
التنازلات لواشنطن سواء المعلن عليها أو غير المعلن لم يمنع الاحتجاجات في السويداء وما حملته من
دعوات لإنهاء القبضة الأمنية والمطالبة بتمثيل سياسي حقيقي وكشفت عن ثغرات عميقة في بنية النظام
السوري ,فالأحداث في الجنوب تثبت أن شرعية المركز تتأكل والتقسيم يقترب والثلاث أعلام سترفع.
فجعلوني رئيسا ليست عبارة مجازية فقط بل تلخص واقعا سياسيا ,حيث تصنع السلطة من الخارج بقدر
ما تصنع من الداخل ويعاد تعريف الشرعية وفق الحاجة لا وفق ما يريد الشعب أو صندوق الانتخاب
وفي بلد تتشظى فيه السيطرة وتتنازعها قوى إقليمية ودولية ,تبقى زيارة الشرع لواشنطن نقطة مفصلية
تكشف كيف يشكل مستقبل سوريا, لا عبر الدولة المركزية فقط بل عبر لاعبين تفتح لهم الأبواب الخلفية
قبل الأمامية.