لمياء ابن احساين تكتب : من ذاكرة البحر إلى صوت الشارع الشرفة الأطلسية التي فجرت غضب العرائشيين
في قلب مدينة العرائش إبنة البحر والوادي هبة فنيق التي تنام على كتف المحيط وتستيقظ على همس أمواجه ، تتربع الشرفة الأطلسية (بالكون أطلنتيكو)كما يناديها العرائشيون كقصيدة صامتة مطلة على الأفق، هناك حيث يلتقي الأزرق الواسع بالتاريخ والموج الهادر وبحجارة قديمة شاهدة على قصص من الحقبة الإسبانية وعمق التراث المغربي الأصيل
وتلك العلاقة الأبدية بين الإنسان والبحر،يشعرالزائرأن المكان ليس مجرد فضاء معماري بل ذاكرة حية تختزن أنفاس الأجداد وهمسات العابرين.
تبدو الشرفة الأطلسية ككتاب مفتوح على فصول التاريخ، من أقواسها الملساء مرت أقدام البحارة والجنود الإسبان وعلى حجارتها وقفت أجيال من العرائشيين، يراقبون السفن القادمة من بعيد أو يودعون أحلاما تهاجر مع المد،إنها مرآة المدينة التي عرفت المزج بين مغربيتها العريقة ونفسها الأندلسي والبحري بين رائحة الياسمين وملح الأطلسي
تزخر الشرفة بعمق موروث معماري متغلغل في ذاكرة الساكنة، أقواسها وأعمدتها تخطت بحنانها حقبة الحماية الإسبانية لتصبح مسرحا يوميا للمراقبة والتأمل والوداع من الزوارق العائدة إلى الميناء و نسائم الغروب.
ليست الشرفة الأطلسية مجرد نقطة مراقبة أومكان للزيارة بل فضاء لبوح جماعي على ضوء المساء الذهبي، هي مسرح صامت لكنه غني بالأصوات الداخلية؛صوت البحرحين يثور وصوت المدينة حين تصمت احتراما لذاكرتها
لكن هذه الذاكرة التي صمدت في وجه الزمن لم تعد صامتة بل اهتزت حين حاولت مشاريع التهيئة الحديثة تغيير ملامح المكان،شعر أبناء العرائش بأن شيئا ثمينا يسلب من روح مدينتهم فخرجوا في وقفة احتجاجية حاشدة مساء سبت 19 يوليوز 2025 رافعين شعار “جميعا من أجل صون هوية العرائش ومن أجل ذاكرة المدينة وتاريخها”
كان صوتهم صرخة ضد النسيان دفاعا عن معلمة ليست ملكا لجيل واحد بل إرث المدينة بأكملها، اتهموا المجلس البلدي والسلطات الإقليمية باتخاذ قرارت أحادية معتمدة على التنفيذ دون رؤية تحترم الذاكرة المعمارية، دون استشارة أو إشراك للمجتمع المدني مطالبين بوقف فوري للأشغال ومراجعة شاملة للمشروع بمشاركة جميع المهتمين والحفاظ على معمارها وتهيئتها كما كانت حديقة وجدانية لعين تأبى أن تفقد مديتنها روحها.
هذه الصرخة أصبحت جزءا من قصيدة المدينة، فالتهور في تغيير بنية المكان لا يطاول الحجر فقط بل يهدد الذاكرة التي تحتضن بها أجيال وجودها وانتسابها لمدينتها.
إن قضية الشرفة الأطلسية لا يتعلق بمجرد مشروع تهيئة عمرانية بل هي امتحان للذاكرة الجماعية وقدرتها على الصمود أمام نزعة التحديث الغير مدروس، فالحفاظ على هذا الفضاء ليس تراثا جماليا فقط بل ضرورة لصون روح المكان وهويته.
إن صوت العرائشيين وهو يطالبون بحقهم في المشاركة لا يجب أن يخبو، فالتخطيط الحضري الحقيقي هو ذاك الذي ينصت للساكنة ويشرك المعماريين والمؤرخين والفنانين ليصنعوا معا رؤية تحترم الماضي وتفتح الباب للمستقبل
الشرفة الأطلسية ليست مجرد شرفة،إنها ذاكرة بحر ومدينة وإنسان وإذا فقدت فقد يُفقد معها قطعة من روح العرائش نفسها.
المدن مثل البشر تحتاج إلى من يصغي إلى نبضها ومن يعيد قراءة تاريخها قبل أن يخط مستقبلها، فمن ذاكرة البحر إلى صوت الشارع تبقى الشرفة تراقب أبنائها وقدرتهم على إعادة رونقها، وفي ليل العرائش حيث ينسحب الضوء وتكتسي المدينة سكونا غامضا تتحول إلى نجمة حجرية تحرس البحر والناس وكأنها تذكر كل من يمر بها بأن العرائش ليست فقط مدينة بل كما قال عنها الملك فيليبي الثاني أنها تعادل نصف إفريقيا بو أيضا حكاية ممتدة عبر الزمن وجسر بين قارتين وثقافتين وروحين.
