محمود دسوقي يكتب : العبور نحو “التصفية”
“حق يُراد به باطل” .. قد تكون هذه الكلمات البسيطة التوصيف الأقرب للحقيقة فيما يتعلق بمطالب رسمية وشعبية حول العالم بتهجير 2 مليون مواطن فلسطيني بقطاع غزة إلى سيناء المصرية، فمن الناحية الإنسانية يُعد ذلك الحل الأمثل والأسرع لإنهاء معاناة الأطفال والنساء والشيوخ الذين يُعانون من القتل الممنهج والتجويع، وفي هذه الحالة قد تُكافأ مصر بوصفها البطل المُخلِّص والمنقذ للشعب الفلسطيني، وقد توجِّه الإدارة الأمريكية دولاً بعينها لضخ ملياراتها الدولارية للاستثمار في مصر دعمًا لاقتصادها الذي يعاني من التضخم والركود منذ سنوات؛ وطالما الأمر هكذا .. لماذا ترفض مصر هذه المطالب ولم ترضخ للضغوط؟!.
المتصفح لكتب التاريخ والمتابع للقضية الفلسطينية، يعلم جيدًا حجم التضحيات التي قدمتها مصر حتى قبل عام 1948 في سبيل إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني ودعم حقه في دولة مستقلة ذات سيادة، ولم يكن هذا الدعم السياسي والاقتصادي مرهون بفترة بعينها لكن هو نهج للدولة المصرية لم يتغير ولم يتبدل، ومنذ عام 1931 كان لمصر كلمتها القوية في المؤتمر الإسلامي الأول بالقدس، وكذلك مؤتمر بلودان في عام 1937، والمؤتمر البرلماني للبلاد العربية والإسلامية بالقاهرة عام 1938، ومؤتمر لندن 1939 وكذلك رفضت مصر بقوة الكتاب الأبيض الذي نص على مبدأ إقامة الوطن اليهودي، وبعدها نظمت مصر المؤتمر النسائي العربي بالقاهرة في عام 1944.
وفي ظل بشاعة المجازر التي ارتكبها الإسرائيليون بحق الشعب الفلسطيني في عدد من القرى لدفع مواطنيها للهجرة وترك قراهم، أعلنت مصر موافقتها على التدخل العسكري المسلح من خلال إرسال المتطوعين إلى فلسطين تحت مظلة جامعة الدول العربية، وكان لمصر دور رئيسي في حرب 1948 ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبعد هذا التاريخ وحتى الآن لم يتوقف الدعم السياسي المصري للقضية الفلسطينية مطلقًا، رغم الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تواجهها مصر حاليًا.
إن الرفض المصري القاطع لتهجير شعب غزة إلى سيناء، هو في الحقيقة رفض لتصفية القضية الفلسطينية ورفض لتمكين دولة الاحتلال الإسرائيلي من الاستيلاء بالقوة على أراضِ عربية لها من المكانة التاريخية والجغرافية ما لا يخفى على أحد، وهو أيضًا حماية للأمن القومي المصري الذي طالما شهد تحرشًا من الجانب الأسرائيلي على مدار سنوات، فالنوايا الإسرائيلية تجاه الدولة الفلسطينية والمنطقة بأكملها باتت جلية وصريحة على لسان رئيس حكومتها ووزرائه، خاصة وأنه تجري المحاولات الآن لفرض السيادة الإسرائيلية بالقوة على الضفة الغربية واعتماد دولة الاحتلال مصطله يهودا والسامرة بدلاً من الضفة الغربية.
يا دُعاة الحق والعدل والرحمة والإنسانية، وجِّهوا أصواتكم إلى دولة الإحتلال الإسرائيلي التي قتلت 59 ألف و733 شهيدًا منذ بداية الحرب على غزة، وتحاصر 2 مليون نسمة تحت وطأة الجوع والمرض، وجِّهوا أصواتكم إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية وجميع المنظمات الحقوقية الدولية لوقف نزيف الشعب الفلسطيني، فإذا اختلفت ألسنتنا ولُغاتنا وتباعدت أفكارنا ووجهاتنا فنحن جميعًا “صُنع الله” .. لا تقتلوا “صُنع الله”.
محمود دسوقي
كاتب صحفي بمؤسسة الأهرام
