مرآة العابرين..كتابة تطهّر الروح بقلم:الشاعر والأديب زكريا حيدر
تكتب روزانا أمام المرآة عارية من كلّ قيد أو ذنب، تكتب لنفسها من نفسها، وتقول للعالم: أنا أشجع منك. أو كما صرّحت في كتابها مرآة العابرين حين سُئلت: لماذا تكتبين يا روزانا؟ فأجابت: أكتب كي لا أموت من فرط الحياة.
في هذا الكتاب، الذي تنوّعت نصوصه بين خواطر نثرية وومضات مكثّفة بلغة شعرية آخّاذة، حاولت روزانا السيّد بغدادي أن تتحدّى العالم والحياة معًا لتقول: أنا هنا. لن يجرفها العمر إلى مستنقع الرتابة والموت، بل ستظلّ نهرًا يتجدّد، يعيش ويحيا، وفي قلبه طهر الماضي، وحبّ الحاضر، وأمل المستقبل.
لم تخترع روزانا البارود في كتابها، ولم تتصنّع الوجع، ولم تختلق الحبّ والذكرى. كانت كلماتها انسيابًا دافئًا من القلب إلى القلب، لا تريد من القارئ أن يغيّر العالم، بل أرادت أن يراها العالم على حقيقتها، وهي تهتك أستار الزيف والاستعارة. أرادت من قارئها أن يكون نفسه في لحظة صدق، أن يقف أمام مرآته عاريًا ليعترف قبل أن يعبر نحو عالم آخر، قبل أن يلتفّ حبل العمر حول رقبته ليخنقه.
ولعلّ أجمل ما يميّز مرآة العابرين أنّه ليس مجرّد نصوص تُقرأ ثم تُنسى، بل هو انخطاف وجدانيّ في لحظة صدق مع الذات. تكتب روزانا كما لو أنّها تمارس طقسًا صوفيًا، تغتسل فيه من غبار العبث اليوميّ لتظهر روحها نقيّة، مشبعة بالحبّ والدهشة. صورها البلاغيّة لا تهرب من الواقع، بل تتغلغل فيه لتكشف أعماقه، كأنّها تقول: كلّ ما نعيشه يمكن أن يتحوّل إلى معنى إذا امتلكنا الشجاعة على البوح به.
نصوصها لا تتزيّن بالمحسّنات الفارغة، ولا تُغرق نفسها في غموضٍ متكلَّف، إنّما تتّخذ من اللغة بساطتها ووضوحها لتصوغ بها وجعها وفرحها ومكابدتها. القارئ إذ يتقدّم في الكتاب يشعر أنّه أمام رحلة تطهّر، رحلة خروج من أسر المادّة إلى فسحة الروح، ولكن من دون أن يقطع الحبل الذي يشدّه إلى الأرض. هنا تكمن قوّة النص: أنّه يحلّق دون أن يغادر الواقع، ويصعد دون أن يتنكّر للجذور.
إنّها كتابة تستمدّ صدقها من انفعال داخليّ صريح، فتجعل الذكرى حيّة، والحبّ ملموسًا، والوجع طقسًا من طقوس الانعتاق. ويغدو القارئ شريكًا في هذه التجربة، كأنّ روزانا تدعوه لأن يقف معها أمام المرآة نفسها، ليجرّد ذاته من الأقنعة، ويواجه حقيقته العارية بلا خوف.
مرآة العابرين بهذا المعنى ليست كتابًا عابرًا، بل مرآةً صافية تعكس وجوهنا جميعًا؛ هي انخطاف وجدانيّ يسعى إلى أن يجعل من كلّ نصّ لحظة خلود، ومن كلّ جملة قبسًا يضيء عتمة القلب.
إنّها تجربة كتابة لا تريد أن تغيّر قوانين الكون، بقدر ما تريد أن تغيّر قوانين القلب. تجربة تذكّرنا أنّ أجمل ما في الأدب ليس أن يغيّر العالم من حولنا، بل أن يغيّر العالم في داخلنا.
