من يقود العالم؟… سؤال أكبر من واشنطن وبكين وموسكو معا .. بقلم :شحاته زكريا
في زمنٍ تتباعد فيه الحقائق كما تتقارب الحدود وتتشابك المصالح كما تتصادم الروايات ، يصبح سؤال من يقود العالم؟ أقرب إلى لغز مفتوح منه إلى تحليل جيوسياسي تقليدي. فالعالم اليوم لا يُقاد من عاصمة واحدة ولا يدار بمنطق القوة العسكرية وحدها ولا تحسمه قمم الدول الكبرى مهما بلغ عدد الصور التذكارية فيها. لقد أصبح العالم شبكة مترامية من الفاعلين تتقاطع في فضائها المصالح والأفكار والقيم والبيانات ويصبح النفوذ فيه امتدادا لمن يستطيع أن يفرض إيقاع اللحظة لا لمن يرفع راية الإمبراطورية.
لذلك فإن السؤال الأشهر – من يمتلك قيادة النظام الدولي؟ – لم يعد سؤالا عن واشنطن وحدها ولا عن بكين التي تتقدم بثبات ولا عن موسكو التي تبحث عن استعادة ما فقدته من هيبة. نحن ندخل عصرا جديدا لم يعد فيه مركز واحد للثقل العالمي بل جغرافيا قوة متعددة تتوزع بين كيانات عسكرية واقتصادية وتكنولوجية وقيمية وكل كيان منها يتقدم في ملف ويتراجع في آخر. وهنا تكمن الإجابة الغامضة: العالم اليوم يقاد من الأطراف بقدر ما يُقاد من القمم.
فالولايات المتحدة رغم أنها ما تزال تمتلك أكبر قوة عسكرية وأضخم اقتصاد متنوع تواجه اليوم تحديات تعيد صياغة دورها التقليدي. الانقسام السياسي الداخلي وصعود تيارات العزلة وعبء التحالفات القديمة، والضغط على قواعدها الصناعية… كلها عوامل تجعل واشنطن تتقدم ببطء وتتنازل أحيانًا عن دور القيادة المباشرة لتتجه نحو قيادة توافقية أو شبكية تتقاسم فيها النفوذ مع حلفاء وشركاء وتدير من الخلف أكثر مما تدير من الأمام. ومع ذلك تبقى أمريكا اللاعب الذي لا يمكن تجاوزه؛ لكنها لم تعد اللاعب الوحيد.
أما الصين فهي القوة التي تتحرك بأهدأ إيقاع وأعمق استراتيجية. بكين لا تبحث عن قيادة العالم بالمعنى التقليدي بل ترغب في إعادة هندسة قواعد اللعبة نفسها. من مبادرة الحزام والطريق إلى الدخول الواسع في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية إلى الصعود التكنولوجي الذي يهدد احتكار الغرب تبني الصين نفوذها عبر الزمن وليس عبر الصدمة. إنها قوة تتقدم بلا ضجيج، وتنسحب دون أن تبدو مهزومة وتفاوض وهي تبتسم وتشتري النفوذ بدلا من أن تفرضه. ومع ذلك فإن نموذجها – القائم على المركزية والرقابة – يصطدم بصراع القيم مع الغرب مما يجعل صعودها العالمي أقل سهولة مما يبدو.
أما روسيا فهي لاعب لا يزال يمتلك قدرة على التأثير لكن تأثيره أقرب إلى نقاط الاشتعال منه إلى قدرة على صياغة المستقبل. فالحرب الأوكرانية وما تبعها من صدامات سياسية واقتصادية مع الغرب جعلت موسكو جزءا من الأزمة أكثر من كونها جزءا من الحل. ومع ذلك فإن روسيا بما تملكه من إرث عسكري وموقع جغرافي وثروات طبيعية ، تبقى عنصرا حاسما في معادلة الردع العالمي وإن لم تعد عاصمة القرار السياسي الدولي كما كانت ذات يوم.
لكن القوة اليوم لا تُصنع من جغرافيا الدول الثلاث وحدها. فالعالم أصبح أكثر تعقيدا من أن يختصر في واشنطن وبكين وموسكو. هناك قوى صاعدة – كالهند وتركيا والبرازيل وجنوب أفريقيا – تتقدم في قطاعات محددة وتفرض حضورها ضمن توازنات إقليمية جديدة. وهناك أوروبا التي رغم ما تعانيه من انقسامات داخلية ما تزال تمتلك قوة اقتصادية وثقافية وقيمية تجعلها صانعا مهما للمعايير الدولية. وهناك الشرق الأوسط الذي يتحول إلى ساحة نفوذ طاقوي واستراتيجي يغير خرائط التحالفات. وحتى القارة الأفريقية التي كانت تُنظر إليها كمجال نفوذ بدأت تتحول إلى لاعب في حد ذاتها خاصة مع صعود أسواق واعدة ونزاعات تعيد تشكيل مراكز القرار.
والأهم من كل ذلك أن القوة الحقيقية اليوم لم تعد حكراً على الدول.
شركات التكنولوجيا العملاقة باتت تملك القدرة على تحريك أسواق وتغيير مزاج شعوب والتأثير في انتخابات وخلق اقتصاد جديد لا يخضع لحدود الدول. منصات الإعلام الرقمي تصنع خطابا أشد تأثيرا من النشرات الرسمية. الذكاء الاصطناعي أصبح فاعلا جديدا يدخل لعبة القرار ويعيد رسم حدود المعرفة. وحتى منظمات المجتمع المدني العابرة للحدود دخلت مساحة القيادة الناعمة.
هذا التشتت لمراكز القوة لا يعني أن العالم أصبح بلا قائد بل يعني أننا نعيش مرحلة انتقالية تتغير فيها قواعد اللعبة. القيادة لم تعد مقعدا واحدا بل شبكة متعددة الأطراف تتداخل فيها المصالح وقد تسيطر فيها دولة على مجال وتفقد نفوذها في آخر. إنها قيادة موزعة لا مركزية لا يهيمن عليها أحد بشكل مطلق ولا يتراجع عنها أحد بشكل كامل.
ووسط هذه التحولات تظهر الدول التي تمتلك ذكاء الدولة وليس فقط مواردها. الدول التي تستطيع قراءة المستقبل وتبني مصالحها بصورة استراتيجية ، وتطوّع التكنولوجيا لأهدافها، وتوازن بين القوة والشرعية. وهذه الدول – مهما كان حجمها – أصبحت جزءا أصيلا من قيادة العالم. فقد أثبتت التجربة أن النفوذ اليوم لا يُقاس بالمساحة أو بالسكان بل بالقدرة على تحويل موقعك إلى قيمة ، وصوتك إلى تأثير وأزماتك إلى فرص.
إن السؤال عن قائد العالم اليوم يشبه السؤال عن مركز الأرض في زمان الاكتشافات الكبرى. الجواب ليس نقطة واحدة، بل مجموعة نقاط تتغير باستمرار. ولذلك فإن القرن الحادي والعشرين لن يشهد إمبراطورية واحدة ولن يسمح لقطب واحد بأن يملي شروطه كما حدث بعد الحرب الباردة. العالم يتجه نحو نظام متعدد المراكز متعدد الأدوات متعدد اللغات… حيث القوة تتوزع بين من يملك التكنولوجيا ومن يملك الموارد ومن يملك القدرة على إدارة التحالفات ومن يملك المهارة في صياغة الرواية الأقدر على الإقناع.
ولعل الحقيقة الأهم هي أن من سيقود العالم ليس من يملك القوة الأكبر بل من يملك القدرة على فهم العالم كما هو لا كما كان.
فالعالم الجديد لا يرحم من يصر على قوانين الماضي ولا ينتظر من يتأخر عن التحولات العميقة ، ولا يكافئ من يتجاهل أن القيادة أصبحت عملاً جماعيا موزعا قائما على مهارة إدارة الفوضى لا السيطرة عليها فقط.
إذن…
من يقود العالم؟
الإجابة ببساطة: لا أحد وحده… والجميع بدرجات.
والفائز الحقيقي هو من يفهم أن القيادة لم تعد عرشا، بل قدرة على الحركة داخل شبكة لا يمكن تثبيت حدودها، ولا إيقاف تطورها.
