من ينقذ التعليم؟ بقلم:الأديب والشاعر زكريا حيدر

25

في صيفٍ لبنانيٍّ صعب، وبين جدران مدرسة رسمية تتقشّر طلاؤها، كان الأطفال يلعبون بقطع طبشورٍ مكسّرة، ويتناوبون الجلوس على مقعدٍ واحدٍ في صفٍ مكتظّ. دخل المعلم متأخّرًا، يجرّ خطواتٍ مثقلة بالهمّ، يحمل دفترًا مهترئًا وابتسامة متعبة. لم تكن تلك المدرسة استثناءً، بل صورة مصغّرة عن واقعٍ تعليميّ يكاد ينهار تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، وتجاهل الدولة، وهجرة العقول.

لكن، بعيدًا هناك في الشمال الأوروبي، وتحديدًا في فنلندا، الصورة مغايرة تمامًا. طفل فنلندي يذهب إلى مدرسته في وقت قصير من اليوم، دون حقيبة مثقلة أو واجبات منزلية مرهقة، يكتشف العالم من حوله عبر اللعب، والاستكشاف، والتجريب. لا يُمتحَن، لا يُقارَن بأحد، ولا يسمع صراخًا في الصف، بل يجد معلّمًا مبتسمًا يحمل درجة ماجستير، مؤمنًا بقدراته، مدعومًا من الدولة، ومتفرّغًا لتطويره.

قد يبدو الفارق شاسعًا بين التجربتين، لكنّ جذور الأزمة في لبنان ليست قدرًا، بل نتيجة إهمال مستمرّ لمنظومة يفترض أن تكون العمود الفقري للنهضة. التعليم في لبنان، ورغم ما يمتلكه من كفاءات بشرية لامعة، يعاني من تشققات بنيوية بدأت بالبنية التحتية المتهاوية، والمناهج المتقادمة، وامتدت إلى الرواتب الهزيلة، والتفاوت الطبقي بين المدارس، وغياب التخطيط المركزي الفعّال. فكيف يمكننا، وسط هذا الركام، أن نحلم بتعليمٍ مختلف؟

الجواب لا يكمن فقط في استيراد نموذج فنلندا أو نسخه، بل في فهم فلسفته. في ذلك البلد البارد دفء إنساني يُبنى على قناعة بأن الطفل ليس متلقّيًا بل صانع معرفة، وأن المعلّم ليس موظّفًا بل مُلهِم، وأن المدرسة ليست سجنًا للدرجات بل فضاء للحياة. الثقة هناك تُمنح للمعلّم، لا تُفرض عليه القوانين من فوق. المساواة هناك لا تُناقش في البيانات بل تُمارس في كل قرية ومدينة. التكنولوجيا لا تفرض سطوتها، بل تدخل كخادمة للعقل لا كبديل عنه.

فماذا لو بدأنا في لبنان بمشروع وطني يعيد الاعتبار للمدرسة الرسمية؟ ماذا لو خُصّصت ميزانيات حقيقية لترميم المباني، وتجهيز المختبرات، وتأمين بيئة تعليمية لائقة؟ ماذا لو جعلنا من المعلم أولوية لا هامشًا، فرفعنا أجره، وأعدناه إلى الصف شغوفًا لا مقهورًا؟ ماذا لو فتحنا الباب لتحديث المناهج، لتغدو أقل حشوًا وأكثر وعيًا بمتطلبات العالم المتغيّر، وأكثر صلة بحياة الطالب وأسئلته؟ وماذا لو دخلت التكنولوجيا الصفوف اللبنانية، لا كترف، بل كوسيلة لإنقاذ التعليم من العتمة والتقليد، عبر منصات وطنية، ومحتوى رقمي، وتدريب مستدام للمعلمين والطلاب؟

ليس من المستحيل أن يُصبح التعليم اللبناني قصة نجاح، شرط أن نغيّر النظرة إليه من عبءٍ على الموازنة إلى استثمار في بقاء الوطن. وربما حينها، يستطيع ذلك الطفل الجالس على مقعد مكسور اليوم، أن ينهض غدًا، لا ليحلم بالهجرة، بل ليصنع حلمًا جديدًا اسمه لبنان. فهل تراه كثيرًا أن نحلم بفنلندا لبنانية؟ ربما، لكنه الحلم الوحيد الجدير بالمطاردة.