هل ماتت القيم أم تغيّرت أدوات الدفاع عنها؟ بقلم :شحاته زكريا
لم تمت القيم لكنها لم تعد تصرخ كما كانت. لم تعد تتقدم الصفوف ولا تُرفع شعاراتها في الميادين الكبرى بل باتت حاضرة في الخلفية مثقلة بالأسئلة محاصرة بالواقع وتحت اختبار قاسٍ لم تشهده منذ نهاية الحرب الباردة. العالم اليوم لا يبدو وكأنه تخلى عن القيم بقدر ما يبدو عاجزًا عن الدفاع عنها بالأدوات القديمة نفسها.
في زمن كانت فيه القيم تعرف بوضوح كانت السياسة الخارجية للدول الكبرى تقدم باعتبارها امتدادا أخلاقيا لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. أما اليوم فالمشهد أكثر تعقيدا: حروب تدار بلا إعلان أزمات تدار بلا حلول وقيم تستدعى في الخطاب وتستبعد في الفعل. هنا يبرز السؤال الجوهري هل تآكلت القيم أم أن أدوات حمايتها لم تعد صالحة لعالم يتغير بوتيرة غير مسبوقة؟
العالم الراهن تحكمه معادلة قاسية الأمن أولا و المصالح قبل المبادئ والاستقرار—even إن كان هشا—أهم من عدالة بعيدة المنال. هذه المعادلة لم تولد من فراغ بل من تراكم أزمات كبرى: صراعات ممتدة و انقسامات داخلية في الديمقراطيات الغربية وصعود قوى جديدة لا تُعرف نفسها أخلاقيا بالطريقة نفسها وتراجع الثقة الشعبية في الخطاب السياسي التقليدي. في هذا السياق لم تعد القيم عملة رابحة في سوق السياسة الدولية إلا إذا ارتبطت مباشرة بمصلحة ملموسة.
لكن الخطأ الأكبر هو الاعتقاد بأن القيم اختفت. الحقيقة أنها تغيّرت في طريقة حضورها وتأثيرها. لم تعد تفرض من أعلى ولم تعد الدول قادرة على تصديرها بالقوة أو الخطاب الأخلاقي المجرد. القيم اليوم تختبر في قدرتها على التكيف: هل تستطيع أن تحمي الإنسان دون أن تتحول إلى ذريعة للتدخل؟ هل يمكن الدفاع عن حقوق الإنسان دون ازدواجية؟ وهل ما زالت الديمقراطية نموذجا ملهما في عالم يشاهد فشلها في معالجة أزماته الداخلية؟
الأدوات القديمة للدفاع عن القيم—كالخطابات الأخلاقية والعقوبات والتدخلات المباشرة—أثبتت محدوديتها بل وأحيانا نتائجها العكسية. لقد أفرغ الإفراط في استخدامها القيم من مضمونها وحولها في نظر كثير من الشعوب إلى شعارات انتقائية تُستخدم حسب الحاجة. في المقابل برزت أدوات جديدة أكثر هدوءا وأقل استعراضا: الدبلوماسية المرنة، الاقتصاد، التكنولوجيا، والرأي العام العالمي العابر للحدود.
التحدي الحقيقي لا يكمن في تعريف القيم بل في استعادة مصداقيتها. فالعالم لا يرفض القيم بل يرفض النفاق المرتبط بها. الشعوب لم تعد تصدق خطابا أخلاقيا لا ينعكس في السياسات ولا تقبل دروسا في الديمقراطية من أنظمة تعاني استقطابا داخليا حادا. هنا يصبح الدفاع عن القيم مسألة ممارسة لا ادعاء ومسؤولية جماعية لا أداة نفوذ.
في هذا السياق ربما يكون السؤال الأدق ليس: هل ماتت القيم؟ بل: هل نحن مستعدون للدفاع عنها بثمن حقيقي؟ فالقيم لا تموت فجأة لكنها تذبل حين تترك بلا حماة صادقين وحين تختزل في بيانات رسمية لا في سياسات عادلة. المستقبل لن يكون بلا قيم لكنه سيكون بلا رحمة تجاه من يستخدمها كقناع لا كمبدأ.
