واشنطن بين مرآتين.. شحاتة زكريا يكتب: هل ترى العالم كما هو أم كما تريد أن تراه؟
في السياسة كما في الحياة لا تُقاس البصيرة بما تراه العين بل بما تستوعبه العقول. وواشنطن منذ نهاية الحرب الباردة تعيش مأزق الرؤية: هل ترى العالم كما هو حقا أم كما تريد أن تراه؟
بين مرآة الواقع ومرآة الرغبة تمضي القوة العظمى في طريق يزداد غموضا وكأنها تخشى أن تصدّق أن الزمن تغيّر وأن العالم لم يعد يدور حول نجمٍ واحد.
في المرآة الأولى تبدو الولايات المتحدة قوة كبرى ما زالت تمتلك اقتصادا ضخما وجيشا لا يُبارى ونفوذا سياسيا يغلّف قرارات الأمم المتحدة والاقتصاد العالمي. لكنها في المرآة الثانية تظهر دولة تتراجع هيبتها مع كل أزمة وتخسر ببطء قدرتها على احتكار القرار وتواجه عالما يُعيد تعريف النفوذ والقوة بلغات جديدة: التكنولوجيا الاقتصاد المستقل وتعدد مراكز القرار.
الصدمة ليست في فقدان واشنطن لمكانتها التقليدية بل في رفضها الاعتراف بعالم متعدد الأقطاب .فبينما تبني الصين اقتصاد النفوذ وتعيد روسيا رسم خرائط الطاقة وتتحرك أوروبا بخطوات حذرة نحو الاستقلال الاستراتيجي ما تزال أمريكا تنظر إلى الآخرين بعدسة “الوصاية” لا الشراكة. وكأنها لا ترى في التغيير تهديدا لتوازن القوى بل تهديدا لصورتها عن نفسها.
منذ حربي أفغانستان والعراق مرورا بالأزمة الأوكرانية وصولا إلى التوتر في بحر الصين الجنوبي كان الثابت الوحيد في سياسات واشنطن هو الرهان على الصورة القديمة للعالم: عالم تُدار فيه الأزمات من البيت الأبيض وتحل فيه النزاعات عبر العقوبات وتُقاس فيه الشرعية بمدى القرب من واشنطن لا من مصالح الشعوب. لكن هذا النموذج ينهار اليوم أمام أعينها لأن الشعوب باتت أكثر وعيا والدول أكثر استقلالا والمعلومات أكثر حرية.
وربما أدركت واشنطن متأخرة أن العالم الجديد لا يحتاج إلى “سيد” بقدر ما يحتاج إلى عقل منفتح . فالدبلوماسية القائمة على الضغط لم تعد مجدية والعقوبات لم تعد تردع أحدا والتحالفات العسكرية لم تعد تضمن الولاء. فالمصالح اليوم تتحرك بسرعة رأس المال لا بسرعة حاملات الطائرات.
المفارقة أن الولايات المتحدة التي طالما صدّرت خطاب الحرية والديمقراطية تجد نفسها اليوم أسيرة صورتها في المرآة الثانية. فهي تتحدث عن النظام الدولي القائم على القيم بينما تمارِس سياسات المصلحة وتنتقد الآخرين حين يستخدمون الأدوات التي اخترعتها هي ذاتها. والنتيجة: فجوة متزايدة بين الخطاب والواقع وبين ما تراه وما هو كائن فعلا
العالم لم يعد يحتاج إلى شرطي بل إلى وسيط عادل والولايات المتحدة لو أرادت الحفاظ على مكانتها عليها أن تنتقل من منطق السيطرة إلى منطق الفاعلية المشتركة. لا يكفي أن تمتلك القوة بل أن تعرف متى وكيف تستخدمها ولأجل من.
قد تكون واشنطن أمام لحظة فارقة في تاريخها: إما أن تنظر في المرآة الأولى فترى العالم كما هو بتعقيداته وتوازناته الجديدة وإما أن تبقى أسيرة المرآة الثانية ترى نفسها مركز الكون فيما يتحرك العالم من حولها إلى مستقبل مختلف لا ينتظر أحدا.
إن الزمن لم يعد يتسع للغطرسة السياسية ولا للقرارات الأحادية التي كانت تُصاغ خلف الأبواب المغلقة. فالعالم اليوم يتحدث بلغاتٍ كثيرة ويتنفس عبر منصات مفتوحة ويتحرك بإيقاع لم تعد واشنطن تتحكم فيه.
ولعل السؤال الأهم الآن: هل تملك أمريكا الشجاعة الكافية لأن ترى الحقيقة بلا تجميل؟ لأن تعترف بأن النفوذ لم يعد يُقاس بكم القواعد العسكرية بل بمدى القدرة على الإقناع والاحترام والتأثير الإنساني؟
إنها لحظة صدق مؤجلة بين دولة كانت ترى نفسها مرآة العالم وعالم بات يرى نفسه أخيرا خارج انعكاسها.
