وفاء أنور تكتب : أستاذي وأنا وحصة الرسم

28

تذكرته، رأيت وجهه متلألًا أمامي كما كان دائمًا؛ تسكنه البشاشة ومشاعر المحبة الخالصة، كان صديقًا مقربًا لي على الرغم من كونه أستاذًا عظيمًا يكبرني كثيرًا في السن، كم عرضت عليه لوحاتي وعرضت عليه أيضًا بعض خواطري، وكم ساعدني هو بتقديم الإرشاد والنصح لي.

كان يمثل لي القدوة والمثل الأعلى، كان الأب حين تتشوش ملامح صورة الأب الذي كنت أتمناه، ظننت أني أحبه بالمعنى الدقيق للحب، فأرهقته بذلك الشعور المندفع مني، متحديًا لكل محاولاته المستميتة لإبعادي عن تلك المنطقة لا يجب أن تطأها قدمي، كان يقرؤني، يستوعب أني حالمة أكثر من اللازم، لكنه لم يفكر يومًا أن يعنفني بل راح يعالج الأمر بمنتهى الحكمة والعقل.

في حجرة التربية الفنية بمدرستي الثانوية التي جمعتني بهذ المعلم الفاضل المتمكن من تدريسه لمادته، كنت حينذاك أستغل أي وقت فراغ لدى وأتوجه لتلك الحجرة التي تحتوي بداخلها بقايا وجداني ومحبتي الجارفة لممارسة موهبتي، أسارع نحوها بخطوات تعكس نبض قلبي.

أمسك بقلمي وبفرشاة ألواني، كان هو عند ذلك يتابعني، يثني كثيرًا على عملي، يقدر دافعيتي لمادة أحببتها ووجدت بين خطوطها ملامحي، وكلما كنت اقترب منه كلما كنت اكتشف أن موهبة الرسم لم تكتمل عندي إلا بوجوده إلى جانبي، أحببت الفن بكافة فروعه لدرجة وصلت بي إلى الذهاب بشكل شبه يومي لاستكمال لوحات زميلاتي اللاتي كن يهربن من إكمال لوحاتهن مع الأسف.

كان يسمح لي أن أشاركه الرأي في موضوعات عدة وكنت حينها المراهقة الصغيرة التي تحاول لفت انتباهه إليها بأي وسيلة، لكنه كان ذلك الرجل التربوي المتزن الذي يعلم سمات هذه المرحلة، كان يعلم قدر الطيش الذي يسكن بي فيصدني عنه فيتملكني الغضب بجهالة مني، لم أفهم حينها بأنه أراد بذلك تقويم سلوكي وجعلي أفيق من وهم كان يحركني بلا هدف، خيال جامح كاد أن يضيعني ويطيح بي.

كم أشعر الآن وفي كل وقت بالامتنان لهذا الرجل الذي علمني الكثير، الإنسان والفنان الذي أسعدني حظي بالتعرف عليه والتعلم على يديه، أمتن لهذا القدر الذي أرسل به إلى، حين وضعه في طريقي لكي يشجعني ويعزز موهبتي، يصقلها بخبرته، بدافع أبوي منه لمساعدة طالبة محبة للفن وكذلك لنظم الشعر.

توصلت إليه منذ سنوات قلائل وعلمت أنه بخير، كتبت إليه برسالة ألقيت معها بنفسي في تلك الحقبة البعيدة، كأني ولدت لحظتها من جديد خاصة بعد أن حدثته وأنا أحاول تذكيره بنفسي، مرسلة له بصورتي حينما كنت صغيرة في هذه السن.

اكتملت فرحتي وبلغت سعادتي عنان سمائي حين أخبرني بأنه ما زال يذكرني، سألته عن أخباره وأولها سؤالي عن صحته، ثم انطلقت أخبره بتفاصيل مشواري ومسيرتي، سردت له كل ما كان يدور وقتها في رأسي فضحك وقبل اعتذاري المتأخر، اعتذار لجأت إليه لأبريء به ساحتي، لعله يشفع لي ويفي بالغرض.