وفاء أنور تكتب : سنوات الغربة والحنين

40

حين يغترب الإنسان المصري عن وطنه يبقى ظل وطنه الحبيب حبيسًا بداخله، يراوده حنينه إليه بين اللحظة والأخرى، مرسلًا إليه برسالة يقول فيها: فضلًا، لا تنساني؛ ينثر هذا الحنين الجارف عطره عبيرًا مبهجًا محملًا دائمًا برائحة الذكرى لكل زمان ومكان مر به أو عاش فيه، يسرد عليه بعض حكاياته ويقص عليه فصول من كتاب تاريخه الذي سبق البشرية كلها منذ القدم، يثير عاطفته الجياشة ويملأ وجدانه بنسمات من ربيع وطن خلق ليبقى.

حب الوطن والاشتياق له بمثابة شمس ساطعة لا يخبو نورها أو ينزوي بعيدًا عن عيون أبنائها، ومصر من دون غيرها لها مع الزمان حكايات لاتعد ولا تحصى فالانتماء إليها فخر وعزة، حبها سر كبير من أسرارها سر جعلها تختلف عن مثيلاتها، كلنا نرى من اغترب عنها وهو يواصل العمل من أجل تحقيق ذاته مستحضرًا في ذهنه صورتها الحبيبة بكل معلم من معالمها، متذكرًا لتفاصيل دقيقة توحي إليه بأن يهب نجاحه إليها، يرسل به كهدية غالية لمن أنجبته، من رعته، وأطعمته من خيرها.

بقي في قلب كل ابن من أبنائها شيئًا مشتركًا، فجميعهم يؤمنون بها ويسارعون لدعمها ومساندتها، يقدمون كل ما لديهم من معارف للعالم أجمع؛ بهدف المساهمة في إعلاء شأنها والارتقاء بها، يحاولون قدر استطاعتهم العمل من أجل توضيح صورتها الحقيقية لمن يجهلونها، يشرحون جوانب تميزها وتفردها، يتغنون بملاحم وبطولات أبناء لها أحرزوا لها النصر بكل شجاعة وبسالة، يعلنون ذلك مفاخرين بها بين الأمم، مدركين لكامل حقها عليهم كأبناء بارين بها، معترفين بجميلها وبفيض عطائها.

لم ينجح الفراق في سلب حنينهم إليها، لم تدفعهم سنوات الغربة وإن طالت لنسيانها أو التخلي عنها، فكلما ازداد زمن فراقهم لها كلما تشبثوا بها، مصر حاضرة باقية، عزيزة وغالية، فهم وإن كانوا ابتعدوا عنها جسدًا، بقيت أرواحهم فيها تهيم وتترنم بحسنها.

أردد مرة أخرى -كل- الأوطان غالية، لكن لمصرنا نحن قصة ومعان أخرى، مصرنا حكاية فريدة يطول شرحها، مصرنا حالة نادرة لا تتكرر، وإن علت الأصوات المضللة التي تتعمد الإساءة إليها، نراهم يقفون معًا يتوحدون من أجل نصرتها، واثقين بأنهم على الحق المبين وإن غوى الباطل بعض أبنائها، فزين لهم السعي في طريق عقوقها بمحاولات النيل منها.

لا تتعجب إن رأيت دموع حنينهم إليها تسيل مستبقة حديثهم عنها، فالبعيدون دائمًا ما يشتاقون بشكل أقوى لسنوات قضوها في رفقة أهل وأصدقاء أقاموا بها، لطفولة وشباب عاشوه بين ربوعها ودروبها، إنهم يدركون قدرها، يعظمون قيمتها، يرونها أجمل بلاد الدنيا؛ وإن اختلفت ظروفها.

وفاء أنور