شحاتة زكريا : الرهان على الوقت.. حرب بلا نهاية في غزة
السباق في غزة ليس عسكريا فقط بل سباق بين الإرادة والإنهاك. بين شعب يتشبث بالحياة ولو تحت الركام وسلطة احتلال لا ترى في البشر إلا أرقاما على شريط أخبار. كل يوم يمر يُخصم من رصيد الاحتمال والصبر لكنه أيضا يُخصم من شرعية الحرب ومن صورة العالم الصامت.
منذ أن سقط اتفاق وقف إطلاق النار الأخير ، تحولت غزة إلى مساحة مفتوحة للدم والنار ومختبر قاس لحدود التبلد الدولى. لا خطوط حمراء ولا سقوف للفظائع. المشهد مكرر حد الألم: صواريخ، أنقاض، أطفال، ومقابر جماعية مؤقتة. لكن ما يتغير فعلا هو موقف العالم: مزيد من التجاهل ومزيد من التطبيع مع القتل.
إسرائيل تعتبر أن لها “فرصة تاريخية” ، كما تسميها دوائرها السياسية لا لتصفية حماس فقط بل لتفكيك القضية الفلسطينية من أساسها. الفكرة لم تعد استعادة رهائن أو نزع سلاح بل صناعة واقع جديد عنوانه: غزة بلا مقاومة وبلا أمل.
وفي الخلفية تدور محاولات دبلوماسية باهتة لا تملك الجرأة على تسمية الجريمة باسمها. مصر وقطر تسعيان للتهدئة والولايات المتحدة تلعب دور المتفرج الذي يضع رجلا في الماء وأخرى في النار. المساعدات تتسلل بصعوبة والمبادرات تتحول إلى مناورات شكلية ، وأرواح المدنيين وحدها تدفع الثمن.
المعضلة الجوهرية ليست في صاروخ ينطلق أو طائرة تقصف بل في رواية تُفرض بالقوة. إسرائيل تريد فرض سردية أن “حماس هي المشكلة”، وأن “غزة المتروكة بلا مقاومة” هي الحل. أما حماس فترى أن نزع السلاح يعنى نزع القدرة على الحياة وتسليم رقبة الشعب الفلسطيني للمحتل.
الواقع أعقد من مجرد طرفين يرفضان التنازل. نتنياهو يراهن على الوقت وعلى تآكل الضغط الدولى وعلى أن العرب مشغولون بأزماتهم. حماس تضع السلاح كخط أحمر لأنها تدرك أن التراجع يعنى شطبها من المعادلة. بينهما ملايين الفلسطينيين يحلمون فقط بيوم عادى.. بلا طائرات.. بلا جنازات.
ما يغيب عن الكثيرين أن استمرار الحرب بهذا الشكل لا يهدد غزة فقط بل يهدد فكرة العدالة ذاتها. إذا مرّ هذا الدمار بلا محاسبة ، فإن كل حاكم سيفهم الرسالة: يمكنك أن تفعل ما تشاء طالما كنت تملك الغطاء.
وهنا تأتى مسؤولية العالم العربى لا بصفتهم وسطاء ، بل شركاء في التاريخ والجغرافيا والمصير. ما يحدث الآن ليس معركة بين إسرائيل وحماس بل اختبار لضمير الأمة ولقدرتها على قول “لا” حين يتواطأ الجميع على الصمت.
الحرب في غزة ليست مجرد حرب تقليدية إنها فصل أخير – أو هكذا يريدون – من كتاب طويل عنوانه: تصفية القضية. لكن رغم القصف والحصار تبقى غزة عصية على الكسر. لا لأن لديها سلاحا بل لأن لديها ذاكرة وإرثا من المقاومة وحقا لا يسقط بالتقادم.
والسؤال الآن لم يعد: متى تتوقف الحرب؟ بل: ماذا سيتبقى بعدها؟ ما شكل غزة بعد كل هذا؟ ومن سيكتب القصة الأخيرة؟ أهلها الذين يدفعون الثمن؟ أم من يشاهدونها تُحرق بصمت؟