شحاتة زكريا يكتب: المنطقة في زمن الحساب.. من يدفع الفاتورة؟ ومن يحدد السعر؟
فى الزمن الذى تتسارع فيه الأحداث وتتغير فيه التحالفات وتتقاطع فيه المصالح ، لم يعد من الممكن قراءة خريطة الإقليم بنفس أدوات الأمس. فكل خطوة تُحسب وكل كلمة تُوزن ، وكل قرار يحمل وراءه سلسلة من التداعيات ، بعضها ظاهر وبعضها لا يُرى إلا بعد حين. نحن اليوم فى زمن الحساب؛ حيث تُراجع الشعوب والحكومات المواقف والسياسات وكل طرف بات يطرح على نفسه سؤالا منطقيا: من سيدفع فاتورة هذه المرحلة؟ ولكن قبل هذا السؤال هناك سؤال أخطر: من يحدد السعر أصلا؟
المنطقة لم تعد ساحة صراع بالمعنى التقليدي ، بل تحوّلت إلى ميدان متشابك من التفاعلات المركّبة، بين اقتصاد متقلب، وأمن مهدد، وتحولات جيواستراتيجية لا تتوقف. لم يعد بالإمكان فصل ما هو سياسي عما هو اقتصادي ولا ما هو أمني عما هو اجتماعي. كل خيط يشد خيطا، وكل اهتزاز في أي زاوية من الإقليم تُصاحبه تداعيات تُطال البعيد قبل القريب. حين نطرح سؤال “من يدفع؟”، فنحن لا نعني فقط من سيتحمل التبعات المباشرة ، بل من سيملك قرار الدفع من الأساس ومن سيتحمل فاتورة استقرار لم يُسهم في صناعته أو انهيار لم يكن شريكا في أسبابه.
فى المعادلة القديمة كانت الدول الكبرى ـ أو ما يُعرف تقليديا بمراكز القوى ـ هى من تُقرر ، وتُحدّد الأسعار ، وتفرض آليات الدفع وتُصنّف من يستحق النجاة ومن يُترك على حافة الهاوية. أما اليوم فالصورة بدأت تختلف ليس بالضرورة لأن موازين القوة تبدلت ولكن لأن كلفة الخطأ أصبحت فادحة وكلفة الصمت باتت أكثر إيلاما. لقد أصبحت كل دولة مهما بلغ حجمها أو مكانتها مطالبة بأن تحسم خياراتها بوعي شديد ، لأن فاتورة الغموض أصبحت باهظة. فالتردد لم يعد حيادا بل أحيانا يُقرأ كضعف والانفعال لم يعد بطولة بل يُترجم كقصر نظر.
فى كل أزمة تمر بها المنطقة نكتشف أن هناك فواتير متعددة. هناك من يدفع ثمن الاستقطاب ، وهناك من يدفع ثمن التحالفات المتسرعة وهناك من يدفع ثمن السكوت طويلا على أخطاء مزمنة، وهناك من يدفع ثمن الإصغاء المُفرط للخارج وهناك من يدفع فقط لأنه قرر أن يحتفظ بمسافة تحفظ له استقلاله وكرامته. لكن الأهم هو أن هناك من يستثمر هذه الفواتير ، ويصوغ منطقا جديدا للربح والخسارة لا يعتمد على من أطلق الرصاصة ، بل من خطّط للمعركة في صمت.
السعر الحقيقي لا تُحدده القوى الكبرى فقط بل يُحدده من يملك أوراقه. وهنا تبرز قيمة الدول التى تمسّكت بثوابتها وسعت إلى دور فاعل لا تابع. ففى زمن الحساب الدول الرشيدة لا تنتظر الفاتورة لتدفعها بل تسعى لصياغة شروطها. لأن من لا يشارك فى كتابة المشهد ، سيُكتب عليه أن يُنفذ ما لا يرضى عنه. وهنا تبرز أهمية العقل الاستراتيجى الذى لا يُقاس بحدة الخطاب ، بل بقدرته على التوازن بين المبادئ والمصالح والذى يعرف متى يتقدم بخطوة ومتى يتراجع تكتيكا دون أن يفقد جوهر موقفه.
فى هذا السياق يُمكن قراءة الحضور المصرى كمثال على الفاعلية دون صخب والحكمة دون تردد. فالقاهرة بحكم موقعها وثقلها لم تغب يوما عن مائدة القرار الإقليمى ، ولكنها فى الوقت ذاته لم تُقحم نفسها فى معارك لا ترى فيها مصلحة لشعبها أو لأمنها القومى. وهذا ما يجعل كثيرين ينظرون إلى الموقف المصرى باعتباره نموذجا لدولة تفهم أوزانها وتحترم عقلها وتُدير أدواتها بذكاء. فى زمن الحساب من لا يخطئ لا يُحاسب. لكن الأهم من ذلك أن من لا يتورط لا يُستدرج. وهذا هو الفرق الجوهري بين الدول التي تتحرك وفق رؤية وتلك التي تُساق برد الفعل.
رغم كل التوترات.لا يزال هناك هامش للتحرك. فالمنطقة ليست قدرا مكتوبا بل خيارا مفتوحا. كل أزمة تحمل فى طياتها فرصة وكل تحوّل يمكن أن يُعيد ترتيب الأولويات. وما تحتاجه الشعوب اليوم ليس شعارات جديدة ، بل وعيا قديما بقيمة الاستقرار ، وأدوات حديثة لضمانه. قد لا نستطيع إلغاء الفاتورة تماما لكن يمكننا أن نُحدد سعرها العادل ونختار الطريقة التى نُسدد بها. ففى النهاية الأذكياء لا يدفعون الثمن فقط بل يسألون: هل كنا شركاء فى القرار أم مجرد متلقين؟
فى زمن الحساب… الوعي هو العملة الأهم والاستقلال هو الضمان الوحيد ألا نُفاجأ بالفاتورة ولا يُفرض علينا السعر.