د ماك شرقاوي يكتب : صدام في تركيا ولقاء حفتر وولديه مع السيسي بالقاهرة

21

ليبيا على مفترق طرق: زيارة صدام حفتر إلى تركيا ولقاء حفتر والسيسي في القاهرة… دلالات وتحولات استراتيجية
تشهد الساحة الليبية تحركات سياسية وأمنية متسارعة، تعكس ما يشبه إعادة ترتيب للمشهد بعد سنوات من الصراع والتدخلات الخارجية. وفي قلب هذه التحركات، برزت خلال شهر أبريل الماضي زيارتان بالغتا الأهمية: الأولى كانت زيارة صدام حفتر، نجل القائد العام للجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، إلى العاصمة التركية أنقرة، حيث التقى بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ والثانية تمثلت في لقاء جمع المشير حفتر ونجليه صدام وخالد، مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بحضور رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية اللواء حسن رشاد، وذلك في مدينة العلمين المصرية.

هاتان الزيارتان، رغم تباعد جغرافيهما، تجمعهما خيوط سياسية وأمنية دقيقة، وتحملان رسائل مزدوجة تعكس تحولات إقليمية في التعاطي مع الملف الليبي، لا سيما من قبل تركيا ومصر، وهما الدولتان اللتان تملكان نفوذاً متزايداً داخل الأراضي الليبية، لكن من موقعين مختلفين، بل ومتناقضين سابقاً.

زيارة صدام حفتر إلى أنقرة: تقارب استراتيجي أم صفقة تكتيكية؟
زيارة نجل حفتر إلى أنقرة جاءت مفاجئة لكثير من المراقبين، خصوصاً وأن تركيا كانت لعقود داعماً أساسياً للمعسكر الغربي في ليبيا، وتحديداً لحكومة الوفاق السابقة برئاسة فايز السراج، ثم حكومة عبد الحميد الدبيبة لاحقاً. أن تستقبل أنقرة صدام حفتر، وهو الرجل الثاني في الجيش الوطني الليبي بعد والده، وتوقّع معه اتفاقات عسكرية وأمنية، فإن هذا يعدّ تحولاً بالغ الدلالة في السياسة التركية تجاه ليبيا.

بحسب ما كشفته تقارير فرنسية ودولية، فإن الزيارة لم تكن مجرد بروتوكولية، بل حملت في طياتها توقيع اتفاقيات تعاون عسكري تشمل تدريب نحو 1500 عنصر من قوات الجيش الليبي في 30 برنامجًا تدريبيًا متخصصًا، بالإضافة إلى صفقة تسليح تتضمن طائرات مسيّرة، ومنظومات تسليحية متطورة، ودبابات، ومدرعات.

الأهم من ذلك، أن الاتفاق يشمل أيضاً تدريبات بحرية مشتركة على طول الساحل الشرقي الليبي، وتحديث البنية التحتية للقوات البحرية الليبية، مما يطرح تساؤلاً حول ما إذا كانت تركيا تعيد رسم خارطة تموضعها داخل ليبيا، لتشمل شرق البلاد أيضًا، بعد أن كانت تكتفي بدعم الغرب فقط.

لقاء حفتر والسيسي في القاهرة: تأكيد على ثوابت مصرية واستيعاب للمتغيرات
في المقابل، جاء لقاء المشير خليفة حفتر ونجليه مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، بحضور رئيس المخابرات العامة، كمحطة محورية لا تقل أهمية. ورغم أن مصر كانت وما زالت من أكبر الداعمين للجيش الوطني الليبي في مواجهة الميليشيات المسلحة، إلا أن اللقاء جاء في توقيت حساس، تزامن مع بدء تداول أخبار زيارة صدام حفتر إلى تركيا.

اللقاء، بحسب ما أُعلن رسميًا، ركّز على أهمية دعم الحل السياسي في ليبيا، وتوحيد المؤسسة العسكرية، وضمان استقرار البلاد بعيدًا عن التدخلات الأجنبية. لكنّ التوقيت والمحتوى الفعلي يعكسان ما هو أبعد من مجرد دعم تقليدي، بل ربما إدراك مصري لحتمية الانفتاح على الواقع الجديد الذي تشكله المتغيرات في المواقف التركية.

هل تغيرت تركيا… أم تغيرت أولوياتها؟
لطالما اعتُبرت تركيا في ليبيا خصمًا مباشرًا للمعسكر الشرقي، حيث دعمت بقوة حكومة طرابلس بالسلاح والجنود والمستشارين، وكان تدخلها حاسمًا في صد تقدم قوات حفتر نحو طرابلس في عام 2019. اليوم، يبدو أن أنقرة تعيد حساباتها، مدفوعة بعدة عوامل:

التقارب المصري–التركي الأخير، والذي بلغ ذروته بزيارات متبادلة على مستوى الرؤساء.

التفاهم التركي–الإماراتي، الذي هدّأ من حدة المواجهات الإقليمية بالوكالة داخل ليبيا.

إدراك تركيا أن السيطرة الحصرية على غرب ليبيا لم تعد كافية لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، خصوصاً مع الانقسامات الحادة داخل حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس.

من هنا، فإن توقيع اتفاقيات مع شرق ليبيا، عبر صدام حفتر، قد لا يكون خطوة ضد مصر، بل ربما يتم بتفاهم غير معلن معها، ضمن إعادة توزيع النفوذ بعيداً عن منطق الاستقطاب الحاد.

هل نحن أمام شراكة ثلاثية مصرية–تركية–روسية في شرق ليبيا؟
ثمة مؤشرات على أن هذه المرحلة قد تشهد تلاقي مصالح بين القوى الكبرى المؤثرة في ليبيا، تحديداً مصر وتركيا وروسيا. جميعها تدعم بشكل مباشر أو غير مباشر الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر، وكل منها حريص على إنهاء الفوضى في ليبيا دون الانزلاق إلى صدامات عسكرية جديدة.

روسيا، على سبيل المثال، تحتفظ بعلاقات قوية مع حفتر، وسبق لها أن سعت لإنشاء قاعدة لوجستية في ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، لكن دون تحويلها إلى قاعدة عسكرية، وهو ما يعكس حرص موسكو على عدم استفزاز القاهرة.

الصين بدورها تحاول الدخول إلى ليبيا عبر بوابة الاستثمارات، بينما تركز الولايات المتحدة على ملف الهجرة غير الشرعية ومحاربة الإرهاب، لكن دون وجود فعلي قوي على الأرض.

الرسائل الخفية وراء صفقة التسليح
فيما يُفسر البعض الاتفاق التركي–الليبي الجديد كدليل على انقلاب حفتر على داعميه التقليديين، يرى آخرون أن الاتفاق جاء بموافقة مصرية ضمنية، خصوصاً أن أي وجود تركي في الشرق لا يمكن أن يتحقق دون توافق أو تنسيق مع القاهرة.

صدام حفتر لم يذهب لتركيا لعقد صفقة فردية، بل ضمن رؤية استراتيجية أوسع تضع في الحسبان توازنات القوى، والتفاهمات الجديدة التي قد تُبنى عليها المرحلة القادمة في ليبيا، خصوصاً في ظل قرب انتهاء ولاية حكومة الدبيبة، وزيادة الضغط الدولي لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية.

هل دخلت ليبيا مرحلة “ما بعد الحرب”؟
المشهد الليبي اليوم يختلف جذريًا عما كان عليه قبل ثلاث أو أربع سنوات. الفاعلون تغيروا، أولويات الدول الإقليمية تبدلت، والتحالفات القديمة تآكلت لصالح تحالفات جديدة قائمة على “الواقعية السياسية”. تركيا تقترب من مصر، والإمارات تخفف انخراطها العسكري، وروسيا تبحث عن موطئ قدم هادئ، ومصر تتحرك بثقة لتثبيت استقرار شرق ليبيا عبر دعم حفتر، لكن دون إغلاق الباب أمام التفاهمات الدولية.

زيارة صدام حفتر لأنقرة لم تكن نهاية تحالف، بل بداية لمعادلة جديدة، تتسم بالمرونة، وتقوم على فكرة “الربح المتبادل”. في هذه المعادلة، يبقى الثابت الوحيد: ضرورة توحيد ليبيا، وإنهاء الفوضى، وتجنب سيناريو الفشل الدائم.

د .ماك شرقاوي الكاتب الصحفي
والمحلل السياسي المتخصص في الشأن الأميركي

رابط الحلقة: