شحاتة زكريا يكتب : العالم لا يكره اليهود.. بل يرفض إسرائيل

1

من يقرأ خريطة الغضب العالمي اليوم في شوارع الجامعات الغربية وعواصم القرار الدولي لن يخطئ في فهم الرسالة: لم تعد إسرائيل محصنة بمظلة الأخلاق الغربية ، ولا مستثناة من المساءلة التاريخية. لم يعد الشارع العالمي يقبل الادّعاء المكرر بأن انتقاد إسرائيل هو معاداة للسامية فالرد الأكثر شيوعا الآن في تلك الساحات: نحن لا نكره اليهود.. بل نرفض إسرائيل!

ما يحدث منذ أكتوبر 2023 ـ بعد العدوان الواسع على غزة ـ تجاوز كل ما سبق. لا يتعلق الأمر بتأييد حقوق الفلسطينيين فحسب بل بكشف عن الوجه العنيف لدولة لم تعد تُجيد التخفي وراء قناع الديمقراطية ولا يمكنها إقناع أحد بأن قتل الأطفال وقصف المستشفيات يمكن أن يُبرر تحت لافتة حق الدفاع عن النفس.

التحول الأخطر هذه المرة أن هذا الغضب لم يأت من الشرق ولا من جمهوريات غاضبة في الجنوب بل من داخل معاقل الغرب نفسه. من جامعات أمريكية وبريطانية وفرنسية خرجت أصوات الطلاب والأكاديميين تُطالب بمقاطعة إسرائيل أكاديميًا واقتصاديا وتدعو إلى وقف تمويل آلة الحرب الصهيونية. كثيرون في واشنطن ونيويورك وباريس رأوا صور الأطفال تحت الأنقاض في غزة فقرروا أن يتجاوزوا سرديات الإعلام الموجه ويتبنوا روايتهم الإنسانية المباشرة.

الأمر لم يعد يتعلق بصراع سياسي أو خلاف على خرائط.. بل بوعي أخلاقي جديد يرى أن الدولة العبرية كما تسمي نفسها تتصرف باعتبارها كيانا فوق القانون. وأن ما تمارسه ليس دفاعا عن النفس بل إفناء مُمنهج لشعب أعزل وإعادة إنتاج فجة لنموذج الاستعمار الاستيطاني.

ما يربك إسرائيل ليس فقط حجم الاحتجاجات بل مصدرها. فحين يهتف طالب أمريكي في جامعة هارفارد أو كولومبيا ضد دعم حكومته لإسرائيل ويصفها بأنها دولة أبارتهايد ومجرمة حرب فهذا يعكس انهيار الرصيد المعنوي الذي لطالما اعتمدت عليه تل أبيب لتبرير سياساتها.

الأكثر دلالة أن هذا الغضب لم يعد يُكبح بسهولة. لا تُجدي محاولات نزع الشرعية عن المتضامنين ولا تُخيفهم تهم معاداة السامية. بل على العكس بات كثير منهم يُفرق بوضوح بين الدين اليهودي كشأن روحي محترم وبين الدولة الإسرائيلية ككيان سياسي تُسائله الشعوب على جرائمه.

لقد حاولت إسرائيل لعقود أن تحتكر سردية الضحية وتُصوّر نفسها كملاذ آمن ليهود العالم ، يهدده جيران متوحشون. لكن هذا الخطاب يتآكل الآن أمام صور القصف والقنابل الفسفورية. لم يعد أحدٌ في العالم الحر يرى في إسرائيل ديمقراطية محاصرة بل بات يُدرك أن هذه الدولة بطبعتها الحالية تمثل احتلالا مستمرا عنيفا ورافضا للحلول.

والمثير أن بعضا من أصوات الداخل الإسرائيلي بدأت تعترف بذلك. لم تعد انتقادات الساسة المعارضين هناك تدور حول الأداء العسكري بل حول جوهر المشروع الصهيوني نفسه، الذي فشل في أن يكون وطنا أخلاقيا وتحول إلى ما يشبه العصابة كما وصفه بعض قادتهم السابقين. ليس بعيدا أن نسمع مستقبلا أصواتا من داخل إسرائيل تُطالب بنزع الصفة اليهودية عنها وتُعيد تعريفها كدولة مواطنة إن أرادت النجاة.

السؤال الذي يفرض نفسه على العواصم الكبرى الآن: هل تواصل حماية كيان أصبح عبئا أخلاقيا وسياسيا؟ وهل تبقى رهينة لابتزاز معاداة السامية كلما انتقد أحدهم جرائم تل أبيب؟

ربما آن الأوان ليعيد الغرب النظر فالتاريخ لن يرحم من ساهموا في تمكين الاحتلال ولا من دعموا حصار شعب كامل لمجرد أنه يطالب بحقه في الحياة.

إن ما نشهده اليوم ليس معاداة لليهود بل رفضا لمشروع عنصري توسعي فقد كل مبرراته الأخلاقية. إنه ليس كرها لأديان أو شعوب بل غضب من دولة بُنيت على الدم وتعيش على الإنكار.

وما لم تُدرك إسرائيل هذه الحقيقة فإنها تسير نحو عزلة كاملة لا تنفع معها ترسانة إعلامية ولا دعم عسكري.. بل مواجهة قاسية مع ضمير العالم.