شحاتة زكريا يكتب: غزة بين ركام الحقيقة وسراب البطولة

2

ما بين دويّ المدافع وصمت المجتمع الدولي تمضي الحرب في غزة إلى نهايتها الباردة نهاية لا تحمل نصرا لأحد ولا تُغلق بابا من أبواب الجحيم ، بل تُرحل الأسئلة إلى وقت لاحق وتُعيد ترتيب الخراب بأسماء جديدة.

من الواضح أن الحرب دخلت مرحلة الإرهاق السياسي. إسرائيل لم تعد ترى جدوى في الضربات المكثفة ، بعد أن كشفت أن آلة القتل لا تُنتج أمنا وأن فائض العنف لا يُقيم ردعا. وفي المقابل تبدو حماس كمن يفتش في الأنقاض عن مشهد ختامي يحفظ ما تبقى من رواية تآكلت بفعل العزلة وسوء الحسابات.

لا أحد يتحدث عن نصر .. كل طرف يفاوض نفسه على خسارة مقبولة ويعدّ خطواته لمرحلة ما بعد القتال. إسرائيل تحاول أن تُقنِع الداخل بأن الأهداف الكبرى أُنجزت بينما تسعى حماس لحجز موضع قدم في المشهد المقبل حتى لو كان الثمن دما لم يعد يُحدث صدى في نشرات الأخبار.

اللافت في هذه الحرب ليس فقط انسداد الأفق العسكري بل هشاشة السرديات القديمة. فلا الحديث عن المقاومة يجد صدى لدى من فقدوا بيوتهم دون مقابل ولا ادعاء الدفاع عن النفس يبرر مذبحة مستمرة بحق المدنيين. الجميع يعرف أن المعركة لم تعد على الأرض بل على تفسير ما حدث وعلى من يملك حق الحكي باسم المأساة.

الانقسام الفلسطيني يفاقم المأساة. غزة لا تُختزل فقط في نيران الاحتلال بل أيضا في إصرار بعض الفصائل على اختطاف القرار واحتكار الصوت. الخطاب المقاوم تحوّل إلى مونولوج داخلي يتجاهل مَن يُفترض أنهم الجمهور ويطلب التصفيق من الخارج بدلا من مساءلة الذات.

في المقابل يعيش الاحتلال في حالة إنكار مزدوجة: إنكار لوجود شعب كامل وإنكار لحقيقة أن آلة الحرب لا تكفي لإسكات الذاكرة. إسرائيل التي تدّعي أنها في موقع دفاعي تمارس عدوانا لا محدودا وتواجه حقائق السياسة بنفس منطق الغطرسة الذي واجهت به البشر والحجر.

أما العالم فقد اعتاد المشهد. الإدانات باهتة والوساطات بطيئة والدبلوماسية عاجزة عن إجبار إسرائيل على الالتزام بأي سقف إنساني. واشنطن كعادتها تمارس التوازن المستحيل: ترسل القنابل وتوزع النصائح وتطالب بتهدئة لا تتحقق لأنها لا تضغط على من يُشعل النار.

الدرس الأهم أن الصراع لم يعد كما كان. لا الأطراف بقيت على حالها ولا الشعوب تثق في شعاراتها القديمة. الحرب التي ظنتها إسرائيل فرصة لإعادة الهيبة وحماس طوق نجاة من التراجع تحولت إلى مرآة قاسية. مرآة تُظهر للجميع كم فقدوا من رصيدهم وكم صاروا أسرى ماضيهم غير قادرين على صياغة مشروع بديل.

ربما تنتهي هذه الجولة قريبا بهدنة أو اتفاق هشّ. لكن الأكيد أن ما بعدها لن يُشبه ما قبلها. فالمشهد تغيّر ، وشرعية السلاح لم تعد بديهية ولا الصمت الدولي يفسر إلا كقبول ضمني بجرائم مكرورة.

في لحظة ما سيضطر الجميع للاعتراف أن غزة لا تحتاج فقط إلى هدنة، بل إلى إعادة بناء سياسية وأخلاقية شاملة. لا بطولة دون حساب ولا مقاومة بلا نقد ولا مستقبل بلا شجاعة في مواجهة الذات قبل الآخر.