لمى أبو النجا تكتب .. اللواتي دفنهنّ الذكور

128

 

كان ينبغي لهذا المقال أن يكتب في “اليوم العالمي للمرأة” الذي مرّ بي هذا العالم بهدوء غير معهود لعلّي أرحتُ به المخالفين والمتخلفين على حدٍ سواء..
رغم إلحاح والديّ و البعض من المعجبين و الداعمين القلائل على كتابة شيئاً مميزاً في يوم المرأة إلا أني أعتقد أني خيبت آمالهم فما أمر به مؤخراً من ظروف و إرهاق كفيل بأن يعصف ذهني للدرجة التي توقفه عن العمل ليس فقط عن الإلهام للكتابة..

الجميع يعلم الخلفية التاريخية لهذا اليوم بأنه تخليداً للكارثة التي حصلت بإحراق عاملات في إحدى المصانع في عام ١٨٥٧ إحتجاجاً على ظروف العمل القاسية التي أجبرن على العمل تحت وطئتها، جاء يوم المرأة تكريماً وتشريفاً للنساء إبان هذه الكارثة الأخلاقية..و بإحتفالنا بهذا اليوم هو إعتراف ضمني بعدم تكرار هذا الفعل الشنيع في عصرنا الحديث
لكن هل توقف إحراق و خنق النساء عند هذه الكارثة؟ بالطبع لا ولو نظرنا إلى الوضع بعين ناقدة لوجدنا أن الأمر لايتعلق بحقبة فحسب و لا بتلك الفجوة الزمنية بين الماضي والحاضر لأنه وحتى هذه اللحظة لم يتوقف العنف والتهميش والعدوان ضد المرأة ولا أرى أملاً في حصول ذلك..

في عطلة نهاية الأسبوع لم أشعر بالرغبة بمشاهدة فيلم ،فتحت قائمة الأفلام الوثائقية التي دونتها وكان من ضمنها فيلم وثائقي عن “مي زيادة” الفراشة الأدبية التي عشقها الجميع و تركوها تموت وحيدة..
مي زيادة الشاعرة والأديبة ذات الأصول الفلسطينية كانت بحد ذاتها ثورة معرفية و أدبية ، خلقت مي زيادة في زمن لم يكن للمرأة فيه ثقل ولا وزن ولم يكن للنساء فيه طموح يتخطى حدود الزوجية ، زمن “سي السيد” وحريم السلطان حيث كان دورها و غايتها هي إسعاد الرجل و طاعته ..
وجدت مي ..
الأديبة والمفكرة الثورية التي لمعت في إحدى الصالونات الثقافية ،صعدت على المنبر إمرأة جهورة الصوت سليمة اللغة فصيحة اللسان لتلقي خطاباً أذهل الجميع..
شخصية مثل شخصية مي زيادة لم تعطى حقها ولم يعرف عنها أو لها إلا القليل جداً ..كانت أول من نادى بالنسوية أو النسائية حسب تفضيلها وبحقوق المرأة في العالم العربي في التعليم والعمل والمساواة..

تلك المثقفة اتقنت تسع لغات وكتبت ببعضها ..
لمعت مي في عصر رموز الثقافة العربية من الرجال و انشأت صالوناً ثقافياً يقام كل يوم ثلاثاء يجمع أعلام الشعراء والأدباء والمفكرين الذين وقعوا في غرامها..
فقد كتب إسماعيل صبري -من شعراء عصر النهضة:
“روحي على بعض دور الحي قائمةً كظاميء الطير تواقاً إلى الماء إن لم أمتع بميّ ناظري غداً أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء”
أما العقّاد كتب:
“أكل هؤلاء عشاق؟وعلى كلٍ من هؤلاء ينبغي لميٍ أن تجيب جواب المحبوبة التي تتقبل العشق ممن يدّعيه؟”

إلا أن مي وبسبب نعومة تنشئتها أكسبتها النقاء والبراءة والحساسية المفرطة للعالم حولها فكان حبها روحانياً أحبت جبران حبّاً نقياً روحياً لم تلتقيه لعشرين عاماً قالت فيه :

“لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب، إن الذين لايتاجرون بمظهر الحب و دعواه في المراقص والإجتماعات ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللألأ السطحي لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، لكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم ويفضلون وحدتهم ويفضلون السكوت ويفضلون تضليل القلوب عن ودائعها والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة ويفضلون أي غربة و اي شقاء وهل من شقاء غير وحدة القلب على الإكتفاء بالقطرات الشحيحة”

وإستمرت المراسلات بينهم حتى وفاة جبران عام ١٩٣١ وهو العام الذي يسبق وفاة والدها و بهذا تكون مي قد فقدت كل من كان سنداً لها في حياتها ..
قتلت مي حية بسبب الذكور الذين عشقوها وافتتنوا بغرامها وهربت منهم إلى حب “لا مرئي”
فمنهم من وصفها بأبشع الأوصاف و صورها و كأنها عاهرة ترضي كل طالب هوى دخل صالونها ومنهم من حاول وبإستماته ترسيخ وهم أنها كانت عشيقته..
لم يكن سهلاً على مجتمع ذكوري تحمل رؤية فتاة مثقفه جميله تفوقهم أدباً و علماً و ثقافه
..
كتبت لإبن عمها تصف له حالها بعد وفاة جبران:
“إني أتعذب ياجوزيف ولا أدري السبب، فأنا أكثر من مريضة وينبغي خلق تعبير جديد لتفسير ما أحسه في و من حولي. إني لم أتألم في حياتي كما أتألم اليوم ولم أقرأ في كتاب من الكتب أن في طاقة بشري أن يتحمل ما أتحمله وددت لو علمت السبب على الأقل لكني لم أسأل أحداً إلا وكان جوابه لاشيء إنه وهم مني”
ثم جاءها ابن عمها وطلب منها ان تصحبه إلى لبنان لتغير جو الكآبة التي تعيش فيه ووعدها بأن الدفء والناس الذين يحبنوها في لبنان سيعوضونها عن فقدان الأحباب ومشاعر الوحدة التي تعيشها على أن يعيدها إلى مصر بعد أسبوع لكن الأسبوع إمتد إلى شهرين لتجد نفسها نزيلة في مستشفى للأمراض العقلية.
تآمر العالم عليها و أفراد عائلتها و عشاقها و أودعوها في مصحة للأمراض العقلية لتموت ألماً و خذلان..
ولم يعترف بقيمتها الأدبية ولا بسخائها الفكري ولا المعرفي
لم يبقي لها عشاقها المزيفون من إرث إلا صالوناً ثقافياً كان لها الفضل بجمعهم فيه و رسائل حب سرية عرفها العالم بأجمع .. بالآخر لم تعرّف مي العظيمة إلا عن طريق رجل..
“مي زيادة حبيبة جبران”
وكأنها كانت لاتصلح لشيء سوى للحب والهوى ..

هكذا بعض الذكور العرب يريدك مثقفه لكن ليس على حسابه، ذكية في حبه فقط ، قوية لكن إياك والتفكير بالتفوق عليه..وإلا فأنتِ مجرد مغرورة نكدية مجنونة صعبة غير مفهومه “مصدقة نفسك”
ويجب أن تتحملي مسؤولية إعجابه بك !