شحاتة زكريا يكتب : ترامب.. عندما تتحول القرارات الاقتصادية إلى رهانات شخصية

12

فى عالم الاقتصاد لا يُغفر الخطأ بسهولة خاصة حينما يصدر عن صانع قرار بحجم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. وما جرى مؤخرا من قرارات متخبطة بشأن فرض رسوم جمركية على السلع المستوردة ، يعكس مجددا كيف يمكن أن تتحول السلطة إلى أداة للمقامرة ، لا وسيلة لإدارة دولة بحجم أمريكا.

فبين ليلة وضحاها قرر دونالد ترامب – العائد إلى المشهد بقوة – فرض جمارك مرتفعة على البضائع القادمة من الصين ودول أوروبية ، بدعوى حماية السوق الأمريكية من “الاجتياح التجارى الخارجى”، ثم لم يلبث أن تراجع عن القرار مؤقتا مؤجلا تنفيذه تسعين يوما لتبدأ التكهنات حول الهدف الحقيقى من تلك الخطوة.

الظاهر أن القرار يستهدف الحد من تفوق الصين الصناعى والاقتصادى المتنامى لكن الواقع يكشف عن لعبة سياسية واقتصادية معقدة ، تلعب فيها الحسابات الشخصية دورا أكبر من الحسابات القومية. إذ بمجرد إعلان التراجع قفزت أسهم بعض الشركات الأمريكية الكبرى، وعلى رأسها شركة ترامب الخاصة بنسب تجاوزت 20% خلال ساعات،
لتضيف مئات الملايين إلى ثروة الرجل ومحيطه من كبار المستثمرين.

هكذا تتحول السياسة الاقتصادية إلى رافعة للثروة على حساب صغار المستثمرين والمواطنين العاديين الذين دفعوا الثمن فى صورة خسائر فادحة فى سوق الأسهم.وارتباك فى حركة الأسواق. تلك الممارسات تعيد للأذهان ما حدث فى عشرينيات القرن الماضى حين تلاعبت حفنة من الأثرياء بأسعار الأسهم قبل أن تنهار البورصة الأمريكية وتدخل البلاد فى “الكساد العظيم”.

الأخطر أن هذه السياسة قد تفضى إلى زلزال اقتصادى عالمى جديد. فالصين لم تقف مكتوفة الأيدى بل ردت بفرض رسوم مماثلة وألمحت إلى احتمال تقليص اعتمادها على الدولار فى معاملاتها الدولية. أما أوروبا فقد بدا واضحا أنها تدرس خطوات عملية لفك الارتباط الاقتصادى الكامل مع الولايات المتحدة والبحث عن بدائل مستقلة فى التجارة والطاقة والاستثمار.

فى قلب هذا المشهد تبدو الولايات المتحدة فى وضع لا تُحسد عليه. فالحرب التجارية لا تُكسب فى يوم وليلة ومنطق “فرض الأمر الواقع” لا ينجح مع دول بحجم الصين والاتحاد الأوروبى. والأسوأ أن حلفاء واشنطن التقليديين باتوا يتعاملون مع القرارات الأمريكية بشك وريبة لا بثقة وتفاهم بعد أن أصبح المزاج الرئاسى أحد المحددات الرئيسية للسياسة الاقتصادية.

ربما يكون ترامب رجل صفقات ناجحا لكنه لا يدير شركة ، بل دولة ذات تأثير عالمى وأى اهتزاز فى قراراتها الاقتصادية يُربك الكوكب بأسره. والحقيقة أن مثل هذه السياسات لا تُنتج اقتصادا وطنيا قويا بل تعزز مناخ الانكفاء والعزلة وتدفع الشركاء إلى التفكير فى نظام عالمى بديل أكثر توازنا وعدالة واستقلالا.

العالم اليوم على أعتاب إعادة تشكيل كبرى فى العلاقات الاقتصادية الدولية حيث لم تعد واشنطن مركز الثقل الوحيد ولا الدولار السيد الأوحد. وما جرى خلال الأيام الماضية ليس مجرد معركة جمارك بل كاشف حاد لخلل أكبر فى منطق القيادة الأمريكية حين يُختزل الاقتصاد فى أرباح أسهم ومكاسب آنية.

إن أخطر ما يمكن أن تواجهه أى أمة ليس عدوا خارجيا بل قيادة لا تميز بين المصلحة الوطنية والمصلحة الشخصية. وما يفعله ترامب هو الرهان بكل ما تملكه أمريكا من قوة وتأثير على طاولة قمار عالمية لا تحتمل الخسائر الكبيرة.