فن الملحون المغربي ديوان الشعب ومرآة الهوية
كتبت: لمياء ابن احساين
وأنت تتجول بين دروب المدن العتيقة في المملكة المغربية وتقف مشدودا أمام قصورها ورياضها بزليجها الفاسي والتطواني وجبصها الذي لا يتقنه إلا المغاربة يتسلل إلى سمعك فن منبثق من قلب الذاكرة الثقافية للمغرب كترانيم من زمن آخر حيث تختلط العاطفة بالحكمة والروح الشعبية بالعمق الديني و الفصاحة بالعامية المغربية الراقية تعرف بالدارجة الملحونية، الملحون ليس فقط شعر غنائي بل هو أحد أرقى أشكال الشعر الغنائي الشعبي في المغرب ويعتبر من أهم روافد الثقافة المغربية الشفوية يعبرعن الوجدان الشعبي وقضايا الناس والحب والدين والوطن.
هو شعر ظهر في الأسواق والزوايا وترعرع على ألسنة العامة من طبقات اجتماعية متنوعة من الحرفيين والصناع التقليديين والفقهاء والعارفين .
ظهر فن الملحون لأول مرة في عهد الدولة الموحدية خلال القرن الثالث عشر الميلادي ونشأ بالأخص في مدينتي سجلماسة وتافيلالت، ثم تطور في مراكش وفاس ومكناس وعرف أوجه في عهد الدولة العلوية خصوصا في القرن السابع عشر الميلادي .
لفن الملحون قبلا عدة أسماء منها الموهوب – السجية – النْظام -القْريض- ولوْزان -اللْغا – الكٌريحة بالكاف المعقودة.
فهو يتميز بخصائص ترتبط بالأنماط الأدبية المتنوعة، له عدة أنواع منها ملحون القصاير؛تدور أشعاره في فلك الغزل والأمداح ووصف أطباق الأكل الشهية. وملحون التاريخ الذي وثق لأحداث تارخية ووصف المعالم والمآثر ليصبح بذلك مصدرا للعديد من أحداث الماضي.
الخاصية الثابتة في الملحون هو استعماله للغة العربية الفصحى التي تنطق بالدارجة المغربية رغم تغير الطبقة الاجتماعية للشاعر الذي يكتب القصيدة ومن أشهر شعراء الملحون أبو حسون الوطاسي وعبد العزيز المغرواي،وأخذت أيضا قصائده من أشهر رواه ؛سيدي قدور العلمي – محمد بن علي الهواري- الشيخ العربي الدرقاوي- عبد الرحمن المجذوب
رغم أن شعره أقرب للحكمة منه للملحون ،كان الملحون يمثل في الثقافة المغربية المعين الذي يصب فيه الحديث عن العادات والتقاليد والغناء وغيرها ،فهو يصور وجدان الشعب وأحاسيسه كما يرصد حياته اليومية المعيشية ،هو نتاج مغربي صف تجد فيه كل الأحداث والوقائع المجتمعية التي تطرق إليها في صورة جمالية أكثر من رائعة . لعب الملحون دورا كبيرا في تشجيع حركة المقاومة المغربية ضد الاستعمارحيث غزا جل الطبقات المغربية المحبة للكلمة الراقية ولم يقتصر على العامة بل وصل للقضاة والسلاطين والأمراء وخرج من دائرة الرجال ليصل للنساء اللواتي أصبحن مثلهن مثل الرجل في غناء قصائد الملحون.
يجتمع عشاقه أو كما يسمون في المغرب بالمولوعين في البيوت والرياضات والمنتزهات في جلسات خاصة بهذا الفن الراقي الذي أورثته العائلات العريقة وشيخ الملحون لا يموت بل يورث أحدا من أفراد أسرته هذا الفن من الزجل المنظوم الذي يجلس منشدوه بلباس مغربي صرف حيث الجلباب الأبيض والطربوش الأحمر والبلغة الصفراء أو البيضاء التي
تؤثث المشهد لينطلق فن اللْغا والسجية في إنشاد مقترن بآلات كالرباب – العود – الكمان – التعريجة – الدف – الطبل- حسب التقاليد الموسيقية للمنطقة ولا يكتمل المشهد إلا بكؤوس الشاي المغربي وحلويات كعب الغزال -الغريبية -الفقاص – المحنشة.وغيرها من الحلويات المغربية المتنوعة
تنقسم القصيدة في الملحون إلى المقدة أو السرابة وهي قطعة قصيرة .ثانيا الدخول وهو شطر في استهلال القسم بدون عجز ثالثا الحربة وهي اللازمة ويؤديها الشداشة وهم جماعة من المغنيين والعازفين رابعا الأقسام وهي الأبيات المغناة خامسا الدريدكة وتختم القصيدة وتنشد على إيقاع سريع. من أشهر قصائده التي غناها أشهر منشد لفن الملحون الحاج الحسين التولالي قصيدة الغزال فاطمة – خلخال عويشة – قصيدة الشمعة . وقصائد المحمديات المتغناة بالنبي وآل بيته إضافة الى الخمريات والفكاهيات المعروفة بالدالية، شعر الملحون ذاكرة المجتمع بلغة الفن التي تبنى على نفس أنساق الموسيقى العاملية فهناك البياتي وهو ما يسمى في الملحون بالمايع، وهناك الرصد ويسمى بالاستهلال والحجاز السيقة
والحجاز المشرقي، والرصد الأندلسي، ورمل الماية أما الأوزان في الملحون فهي كثيرة نذكر منها الوزن الخضاري والقباحي.
بنية الملحون تتميز بكونها ذات جذور أندلسية قريبة في بنياتها إلى بنيات الموشحات، وأخرى تتشابه في بنياتها بنيات المقامة النثرية المسجوعة والمقامة النثرية المسجوعة تنقسم إلى قسمين الأول يسمى مسكورالجناح والثاني
يسمى السوسي الذي قد يكون اسمه الحقيقي هوالسلوسي أي الكلام المتسلسل السلس.
لا يمكن اختصار الكلمات عن هذا الفن فهو بحركبيروقد سجله المغرب في اليونيسكو ضمن التراث اللامادي سنة 2023.
وهكذا يظل الملحون نبضا حيا للثقافة المغربية عبر الأجيال محملا بعبق الماضي فهو الكلمة حين تروى سيرة الناس والبسطاء والعشاق ،منارة مضيئة في سماء الإبداع المغربي يذكرنا بأن القصيد الشعبي جمال لا يفنى وروحا لا تموت.