شحانة زكريا يكتب : التضخم في الإقليم.. موجة عابرة أم واقع دائم؟
لم يعد التضخم مجرد مصطلح اقتصادي عابر يردده المتخصصون بل أصبح واقعا يطرق أبواب الجميع بلا استثناء. من البقالة إلى البنك ، ومن سعر الوقود إلى قسط التعليم ، أصبح المواطن يشعر كل يوم أن القيمة الشرائية تتآكل ، وأن النقود لم تعد تملك نفس الوزن أمام أبسط الاحتياجات. ومع تسارع الأحداث العالمية وارتفاع تكاليف الإنتاج وتذبذب سلاسل التوريد صار التضخم ظاهرة تعيد تشكيل الاقتصادات وتفرض واقعًا جديدًا قد يطول بقاؤه أكثر مما نتصور.
ورغم أن الظاهرة ليست جديدة فإن ما يميز التضخم في هذا العصر هو طبيعته المركبة. فهو ليس ناتجا عن خلل داخلي فقط ولا عن أزمة مؤقتة في العرض أو الطلب بل عن تفاعلات متشابكة بين الاقتصاد العالمي والسياسات النقدية، والتوترات الجيوسياسية، وتغير المناخ، وتحول الأسواق من مراكز إنتاجية إلى ساحات مضاربة سريعة التغير. لم يعد بالإمكان قراءة التضخم فقط من زاوية المال المتداول أو الفائدة المعلنة بل من خلال فهم السياق العالمي الذي أصبح أكثر هشاشة وأكثر تقلبا من أي وقت مضى.
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم ليس: هل هناك تضخم؟ فالإجابة واضحة في كل فاتورة ومشتروات يومية. لكن السؤال الأدق هو: هل ما نعيشه موجة عابرة كما حدث في فترات سابقة؟ أم أننا بصدد واقع دائم سيفرض قواعد جديدة لحركة السوق والاستهلاك والمعيشة؟ هنا يتباين التقدير، وتختلف الرؤى ، لكن المؤكد أن التعامل مع التضخم اليوم لا يمكن أن يُختزل في مسكنات مؤقتة أو إجراءات انعزالية ، بل يتطلب فهما استراتيجيا لطبيعة التغيرات الجارية في النظام الاقتصادي العالمي.
في أزمنة سابقة كانت موجات التضخم ترتبط غالبا بحروب أو أزمات نفطية أو تغيرات في السياسة النقدية. ثم ما تلبث أن تنحسر بعودة التوازن بين الإنتاج والاستهلاك. أما اليوم فالأمر أعمق من ذلك. فارتفاع الأسعار لا يرتبط فقط بنقص في السلع أو ارتفاع تكاليف النقل، بل بمفاهيم جديدة كأمن الغذاء ، وأمن الطاقة واستقرار سلاسل الإمداد، وسيادة الإنتاج المحلي على حساب الاعتماد الكامل على الخارج. أصبحت الدولة التي لا تملك مرونة في مصادرها ولا تنوعا في وارداتها ولا قدرة على ضبط منظومتها التمويلية ، أكثر عرضة لدوامة التضخم المتكرر، وأقل قدرة على التنبؤ أو الاستقرار.
وهنا تبرز أهمية بناء رؤية اقتصادية مرنة ، لا تقوم فقط على الأرقام، بل على القدرة على التكيف، والتعامل مع التغير كمكوّن دائم لا كطارئ عارض. هذه الرؤية تستند إلى مجموعة من المبادئ: تنويع مصادر النمو، توطين جزء أكبر من الإنتاج تعزيز الاكتفاء الذاتي في القطاعات الحساسة، وضبط السياسة النقدية بما يضمن توازنًا بين السيطرة على الأسعار وتحفيز الاقتصاد. فالحلول الترقيعية لم تعد كافية، والتردد في مواجهة الظاهرة لا يؤدي إلا إلى تعميق آثارها.
المتفائلون يرون أن التضخم الحالي لا يمكن أن يدوم طويلا فمع استقرار أسعار الطاقة وانفراج سلاسل التوريد وتراجع الضغوط على المواد الخام ، ستعود الأسواق إلى طبيعتها وسيستعيد العالم جزءا من توازنه. لكن هذه الرؤية تفترض أن العوامل المسببة للتضخم قابلة للسيطرة في الأمد القريب وأن السياسات النقدية التي تُتخذ حول العالم ستنجح في كبح جماحه دون أن تُدخل الاقتصادات في حالة ركود. أما الواقعيون فيرون أن التضخم سيظل معنا لسنوات قادمة، ليس بالضرورة في شكله الحاد، ولكن كظاهرة مزمنة تتطلب إدارة ذكية لا إنكارا أو تهوينا.
وهنا فإن الرهان لا يكون على إلغاء التضخم بل على احتوائه. على خلق توازن مستمر بين الدخول والأسعار بين تكلفة الإنتاج والدعم الاجتماعي بين حرية السوق وواجب الحماية. من يفهم أن التضخم جزء من المعادلة وليس شذوذا عنها ، يستطيع أن يتعامل معه بحكمة، ويطوعه بدلاً من أن يستسلم له. فالعبرة ليست فقط في الأرقام التي تعلنها البنوك المركزية بل في أثر هذه الأرقام على حياة الناس ، في مدى قدرتهم على الاستمرار ، وعلى التخطيط وعلى بناء مستقبل لا تأكله التقلبات.
إن الطريق للخروج من شبح التضخم طويل لكنه ليس مستحيلاً. تبدأ الرحلة من تعزيز الثقة وضبط التوقعات وتحديث أدوات السياسة الاقتصادية بما يتلاءم مع المتغيرات. ويكمن السر في أن تدرك الدول أن التضخم رغم قسوته يمكن أن يكون دافعًا لإعادة النظر في النموذج الاقتصادي، وفي أولويات التنمية، وفي أدوات الإدارة. لا أحد يملك مفتاحًا سحريًا، لكن من يملك إرادة الإصلاح، وقدرة التكيف، ورؤية المستقبل، يستطيع أن يحول هذه الأزمة إلى فرصة.
وهكذا، فإن الإجابة عن سؤال التضخم بين كونه موجة عابرة أو واقعًا دائما لا تهم بقدر ما تهم القدرة على التعامل معه بذكاء ومرونة ، على الخروج من التبعية للأسواق المتقلبة ، وعلى بناء اقتصاد يستطيع أن يواجه العالم كما هو لا كما نتمنى أن يكون.